كتاب عدن

ذكرى إعلان فك الارتباط وميلاد الوعي الجنوبي


*د. عديل الطهيش
————–
تأتي الذكرى الحادية والثلاثون لإعلان فك الارتباط في 21 مايو 1994م، لتعيد إلى ذاكرة شعب الجنوب محطةً مفصلية في تاريخه السياسي الحديث، يوم أعلن الرئيس علي سالم البيض من مدينة عدن إنهاء الوحدة مع الجمهورية العربية اليمنية، بعد أن تحولت من مشروع سياسي طموح إلى كابوس دموي، انتهى باجتياح الجنوب وإسقاطه بقوة السلاح.
لقد كانت تلك اللحظة نتيجة حتمية لخيانة الشراكة، بعد أن تبيّن أن نظام الجمهورية العربية اليمنية لم يكن يرى في الوحدة سوى وسيلة للهيمنة والسيطرة على مقدرات الجنوب، مستخدمًا الغدر والخداع والغلبة العسكرية، لا التوافق والشراكة. فالاتفاق الذي وُقّع في 30 نوفمبر 1989م لتنفيذ الوحدة خلال عام، تعجّل علي عبدالله صالح بإعلانه في 22 مايو 1990م، مدفوعًا بتفاهمات مع نظام صدام حسين عشية غزو الكويت، باحثًا عن مكاسب إقليمية لا علاقة لها بمصالح الشعبين.
لكن مشروع “الوحدة اليمنية” كان هشًا منذ لحظته الأولى، لأنه لم ينبثق عن وحدة حقيقية بين شعبين متكافئين، بل بين هويتين وثقافتين متناقضتين، ولم يتم فيه كذلك استفتاء شعب الجنوب، بل كانت وحدة اندماجية بُنيت على تفاهمات النخب، وتحولت سريعًا إلى عملية إقصاء ممنهج ضد أبناء الجنوب، تم خلالها تفكيك مؤسسات دولتهم، ونهب ثرواتهم، وتهميشهم من مواقع القرار. وعندما طالب الجنوبيون بإصلاح مسار الوحدة، قوبلوا بالحرب، وكانت مأساة 1994م التي تم فيها اجتياح الجنوب واحتلاله عسكريًا.
من هنا جاء إعلان فك الارتباط في 21 مايو 1994م، كرد فعل سيادي أخلاقي وتاريخي، أعلن فيه الجنوبيون سقوط الشراكة وانهيار مشروع الوحدة، ورفضهم المطلق للاستسلام للهيمنة والغلبة. ورغم قساوة الهزيمة في تلك الحرب، لم يُهزم الجنوب، بل بدأ وعيه يتبلور من جديد.
وفي مرحلة ما بعد الحرب، دخل الجنوب دوامة من التهميش السياسي والإفقار الاقتصادي المنهجي، فتم نهب مؤسساته، والسيطرة على موارده، وتحويله إلى سوق مفتوح للفساد القادم من صنعاء، بينما وُئدت أحلام شبابه في التعليم والتوظيف، وتم تسريح الآلاف من كوادر الجيش والأمن، في واحدة من أسوأ عمليات الإقصاء التي عرفها التاريخ الحديث.
لكن الجنوب لم يركع. ففي عام 2007، انطلق الحراك الجنوبي السلمي، ليفتح صفحة جديدة من النضال، ويعيد للجنوب صوته في وجه الاستبداد. ومن الساحات والشوارع، بدأت القضية الجنوبية تفرض نفسها كقضية شعب يناضل من أجل استعادة دولته.
في 2015، جاءت لحظة فارقة جديدة، حين اجتاحت ميليشيات الحوثي الإيرانية الجنوب، بتواطؤ من القوى الشمالية ذاتها التي اجتاحت عدن في 1994. ومع هذه الهجمة، وُلدت المقاومة الجنوبية من رحم المعاناة، لتخوض أشرس معارك الدفاع، وتحرر أرضها من جديد، بمساندة التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. ورغم النصر العسكري، لم يتوقف التآمر السياسي والاقتصادي، فقد تسللت قوى الشمال في الشرعية اليمنية، وخصوصًا جماعة الإخوان المسلمين، إلى مؤسسات الدولة في عدن، وبدأت بحرب خدماتية واقتصادية ممنهجة ضد الشعب الجنوبي، لتعطيل أي نموذج ناجح يمكن أن يبنيه أبناء الجنوب أو السلطات المحلية في الجنوب. فتم تجفيف الموارد، وعرقلة صرف المرتبات، والتحكم بالبنك المركزي، وإشعال الأزمات الاقتصادية في الكهرباء والمياه والمشتقات، كأدوات سياسية لإخضاع الجنوب مجددًا.
إلى جانب ذلك، شنّت تلك القوى حملة إعلامية وسياسية لتشويه الجنوب وتصويره كمنطقة فوضى، في محاولة لضرب سمعته الإقليمية والدولية، رغم أن الواقع أثبت العكس. فالجنوبيون قدموا نموذجًا رائدًا في محاربة الإرهاب، من خلال قواتهم الأمنية المدربة، التي نفذت عمليات نوعية ضد تنظيم القاعدة وداعش في أبين وشبوة، وأسهمت بشكل حاسم في تأمين عدن وسواحل الجنوب.
ولم يتوقف دور الجنوبيين عند حدود الداخل، بل امتد إلى الإسهام الفاعل في تأمين خطوط الملاحة الدولية في البحر العربي وخليج عدن، في مواجهة التهديدات المتزايدة من قبل ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران. فقد أثبتت القوات الجنوبية، بدعم من التحالف العربي، قدرتها على حماية الشريط الساحلي، وتأمين السفن التجارية، وهو ما جعل الجنوب شريكًا إقليميًا موثوقًا في أمن المنطقة.
ولمواجهة هذه التحديات، ووسط فراغ سياسي ومؤامرات داخلية، جاء تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي في مايو 2017، ليكون المظلة السياسية لقضية الجنوب، والممثل الفعلي لإرادة شعبه. ومنذ تأسيسه، لعب المجلس دورًا استراتيجيًا في إدارة المعركة السياسية، وفرض حضوره في المفاوضات الدولية، وقيادة الملفين الأمني والعسكري، وتنظيم مؤسسات الجنوب على طريق بناء الدولة.
اليوم، ومع حلول الذكرى الـ31 لإعلان فك الارتباط، يدرك الجنوبيون أن وحدتهم الداخلية هي السلاح الأقوى في مواجهة كل التحديات. فالإصطفاف الجنوبي أصبح ضرورة وجودية، في ظل شرعية يمنية اختارت البقاء في الجنوب وتخلّت عن تحرير الشمال، بل وتتحالف مع خصوم الجنوب لعرقلة مساره الوطني.
إن ما تحقق حتى اليوم، رغم العقبات، يؤكد أن الجنوب ماضٍ في طريقه بثبات، وأن دولة الجنوب القادمة ليست مجرد شعار، بل مشروع مدعوم بإرادة شعبية، ومسنود بتحالفات إقليمية، ومستند إلى واقع على الأرض، وجاهز لحماية مصالح العالم في المنطقة.
وختاماً، إن 21 مايو ليس مجرد ذكرى، بل عنوان لميلاد وعيٍ سياسي جديد، وقضية عادلة، ومسيرة نضالٍ مستمرة، تقترب كل يوم من لحظة الانتصار الكبير، وهو استعادة الدولة الجنوبية الحرة، المستقلة، ذات السيادة، على كامل ترابها الوطني.

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد ايضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى