ادب وثقافة

قريباً في المكتبات: لهجة حضرموت في كتابات فان دن بيرخ وكارلو دي لاندبرج



عدن اوبزيرفر-خاص:

مقدمة كتاب
(لهجة حضرموت في كتابات فان دن بيرخ وكارلو دي لاندبرج)
أ.د. مسعود عمشوش
في مطلع الألفية الميلادية الأولى كان الحضارم يستخدمون لغة عربية جنوبية؛ هي اللغة الحضرمية، التي تعدُّ إحدى اللغات العربية الجنوبية القديمة، التي يطلق عليها: (لغات النقوش). ومن المؤكد أن الحضارم، المشهورين بحبهم للترحال والهجرة، كانوا حينها على اتصال بسكان مختلف مناطق الجزيرة العربية بما في ذلك الحجاز. ولا شك في أن كثيرا منهم كان يتقن اللغة العربية الحجازية (الشمالية)، التي أصبحت اللغة العربية الفصحى.
ومنذ دخول الحضارم الإسلام في مطلع القرن السابع الميلادي (الهجري الأول) أخذت اللغة العربية (الحجازية) الفصحى تحلُّ، في حضرموت، في مكان اللغة الحضرمية، وذلك في الكلام والكتابة. وتدريجيا، ومثلما هو الحال في معظم الأقطار التي أصبحت اللغة العربية الحجازية أو الفصحى اللغة الرسمية، برز اختلاف بين اللغة العربية الكتابية ولغة الكلام أو الدارجة التي تسمى اللهجة. وقد احتفظ الحضارم في لهجتهم العربية الدارجة بعددٍ كبيرٍ من المفردات وبعض التراكيب الصرفية والصوتية الخاصة بلغتهم الحضرمية القديمة.
وقد كتب الباحث محمد عوض محروس، في سياق تناوله للهجة المستخدمة اليوم في حضرموت، أن “لهجة حضرموت هي في الأساس من لغتها القديمة، التي جاءت منها أسماء المناطق، التي ما زال فيها رسوم وآثار القدماء، سواءً في محافظة حضرموت بحدودها المعروفة اليوم، أو في المحافظات المجاورة، التي كانت جزءًا من مملكة حضرموت”. وبعد أن يورد محروس عددا من أسماء المدن والمناطق الحضرمية يضيف: “من تلك العيّنة من أسماء مدن وقرى ومناطق حضرموت يتبيّن أنها أسماء حضرمية من لغة حضرموت، اللغة العربية الجنوبية القديمة”. (محمد عوض محروس، لهجة حضرموت، مجلة حضرموت الثقافية العدد 11 ص 72)
وتجدر الإشارة إلى أن الدكتور عبد الله بابعير يرى عكس ما ذهب إليه محمد محروس، إذ أنه يؤكد أن اللهجات العربية بشكل عام “انحراف عن فصيح اللغة الأم، وذلك في كتابه الموسوم ب(انحراف اللهجات العامية الحديثة عن العربية الفصحى، مظاهر من لهجة مدينة المكلا). وبما أن الحضارم كانوا ولا يزالون يرحلون عن أرضهم ويقيمون في عدد من المهاجر فقد تأثرت لهجتهم بلغات تلك المهاجر لاسيما الهندية والملاوية والهولندية والإنجليزية والسواحلية.
أهمية دراسة لهجة حضرموت:
ومن المؤكد أن كثيراً من اللغويين، لاسيما من بين المستعربين، مثل الهولندي فان دن بيرخ والكونت السويدي كارلو دي لاندبرج والبريطاني روبرت سرجانت وهاين-مولر والفرنسية مارتين فانهوف، قد اهتموا بدراسة لهجة حضرموت لإيمانهم أنها تتضمن عددا من آثار اللغة العربية الجنوبية القديمة (لغة مملكة حضرموت)، التي يمكن أن تساعدهم على حل بعض ما التبس عليهم في الكتب المقدسة، وكذلك تطور اللغات السامية بشكل عام.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي شرع عددٌ من الباحثين الأكاديميين الحضارم، خاصة من أقسام اللغة الإنجليزية، في إعداد أبحاث ورسائل علمية حول لهجتهم. وتعد أطروحة الدكتوراه التي أعدّها عبد الله السقاف سنة 1999، من أهم تلك الدراسات، إذ أنها تتضمن تقديما جيدا لسمات اللهجة المستخدمة في وادي حضرموت. وفي سنة 2001 أنجز د. شوقي باحميد دراسة للهجة الحضرمية ترتكز على ترجمة أربعين مثلًا حضرميًا إلى الإنجليزية من قِبل متحدثين باللهجة الأردنية. وفي سنة 2006 نشر د. عبد الله السقاف بحثا آخر حول الكلمات الإنجليزية المُستعارة في اللهجة الحضرمية، وتقدم هذه الدراسة بشكل مسهب السمات الصوتية والصرفية للكلمات المستعارة في الهجاء العربي مع التركيز على حوالي خمسين كلمة مستعارة من اللغات الملايوية الإندونيسية. وقد استنتج السقاف أن الكلمات الانجليزية في اللهجة الحضرمية أقل بكثير من تلك الكلمات المُستعارة من لغات أخرى، لاسيما اللغات الملايوية الإندونيسية.
وسنة 2023 قامت د. نجاة بوسبعة مع باحثتين من السعودية بدراسة مقارنة بين لهجة حضرموت وبعض اللهجات السعودية الجنوبية المستخدمة في منطقتي عسير وجيزان، مع التركيز على طريقة نطق الجيم في تلك اللهجات.
وفي أقسام اللغة العربية نشر د. عبد الله بابعير كتابا عن اللهجة الحضرمية المستخدمة في المكلا وحضّـر باحديجان رسالة دكتوراه عنها في جامعة السودان. ومن غير الأكاديميين علينا التذكير بجهود كل من سيف بن حسين القعيطي وعلي عقيل بن يحيى، ومحمد عوض محروس وحسن العامري.
وإضافة إلى دراسة سمات اللهجة الحضرمية وفق المناهج اللغوية العلمية، نلاحظ أن هناك عددا من الدارسين قد اهتموا بتوثيق النصوص الحضرمية المكتوبة باللهجة الدارجة. ومن المعلوم أن معظم المتعلمين الحضارم كانوا ولا يزالون يحرصون عند الكتابة على الانتقال من العامية إلى اللغة العربية الفصحى؛ لذلك قليلة هي النصوص النثرية التي كتبها (وثقها) الحضارم باللهجة ووصلت إلينا، مثل مقامات الأديب الشعبي أحمد عبد الله بركات وحكاياته. ولا شك في أن التوثيق الكتابي للهجة حضرموت مهم جداً لمعرفة تطور تلك اللهجة. لذلك تكتسب النصوص القليلة التي قام بتوثيقها بعض المستعربين أهميةً بالغةً في هذا المجال، ونجد أمثلة على ذلك في كتابات لاندبرج باللغة الفرنسية (لهجة حضرموت ١٩٠١)، والبريطاني روبرت سرجانت مؤلف (شعر ونثر من حضرموت،١٩٥٢). وقبلهما ضمّن الهولندي فان دن بيرخ الجزء الأخير من كتابه (حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي، 1886) خمسا وعشرين رسالة كتبها حضارم مقيمون في حضرموت أو في مدن الأرخبيل الهندي بين سنة ١٨٥٠ وسنة ١٨٨٥.
وسنضمن الجزء الثاني من كتابنا هذا نصوص تلك الرسائل مع المقدمة المهمة التي وضعها فان دن بيرخ للجزء الأخير من كتابه وقدم فيها بعض سمات اللهجة الحضرمية المستخدمة في حضرموت وجزر الأرخبيل الهندي، وبيّن بعض أوجه الاختلاف بين استخدامها في حضرموت واستخدامها في الأرخبيل الهندي.
أهمية الرسائل وتوثيقها:
ولا شك في أن اهتمام الحضارم بكتابة الرسائل يرتبط بحاجتهم للحديث عن مختلف شؤون حياتهم، العائلية والتجارية، مع أقربائهم وأصدقائهم ومحبيهم وقادتهم وزبائنهم البعيدين مكانيا عنهم، لاسيما في الماضي حينما كانت وسائل النقل والاتصال الأخرى في غاية الصعوبة أو معدومة. ومن المؤكد أن ظاهرة هجرة الحضارم قد زادت من اهتمام الحضارم بكتابة الرسائل.
ومن المعلوم كذلك أن الحضارم، بمختلف مستوياتهم، قد اعتادوا قبل وصول المطبعة إلى حضرموت على تحرير رسائلهم بأنفسهم أو بمساعدة كاتب (راقم أو عرضحالات)، وعلى الأقل في نسختين يحتفظ المرسل دائما بنسخة منهما لديه، وربما يحتفظ الراقم بنسخة منها أيضا. وعادة ما يحتفظ المستلم بالرسالة التي استلمها، والتي تعدّ في بعض الأحيان بمثابة وثيقة شبه رسمية وذلك حينما تحتوي على التعبير عن تنازل أو تمليك أو وصية أو طلاق. واليوم لا تزال كثير من العائلات الحضرمية تحتفظ بصندوق خاص بـ(الخطوط)؛ والخطوط تشمل الوثائق والرسائل المرسلة والمستلمة.
ومن المرجح أن فان دن بيرخ قد حصل على بعض الرسائل التي نشرها في نهاية كتابه (حضرموت والمستوطنات العربية في الأرخبيل الهندي)، من بعض الراقمين أو العرضحالاتيين) المنتشرين في مدن الأرخبيل الهندي التي كان الحضارم يقيمون فيها في نهاية القرن الثامن عشر. وبما أن بعض هذه الرسائل كتبت في حضرموت نفسها، في الوادي والشحر والمكلا، فمن المرجح أن بعض الحضارم قد سلموا فان دن بيرخ تلك الرسائل. ومع ذلك نسارع ونقول إن معظم تلك الرسائل كتبها الحضارم أثناء إقامتهم في مدن الأرخبيل الهندي، بتافيا (جاكرتا الحالية) وسوربايا وتيمور وسنغافورة، وهذا سبب احتوائها على كثير من الكلمات الملاوية والهولندية، مثل (تروس بمعنى مباشرة أو رأسا)، و(الفوز بمعنى البريد post، الباء ينطق في الهولندية فاء).
ونلاحظ أن جزءا محدودا من تلك الرسائل ذو طابع عائلي ويتناول الحياة العائلية الخاصة لمحرريها. وفي هذا الجزء تكثر الكلمات والتراكيب العامية، مثل مساهن مسهون مناظر يصدر لمّان معاد ولعاد وبعاد، الحيث لحيث. لكن هناك رسائل كثيرة ذات طابع تجاري، ويبدو لنا أن مرسلي الرسائل التجارية قد استعانوا في الغالب بـ(كاتب متخصص أو عرضحالات) لتحرير رسائلهم، التي وُظِّفت فيها الصيغة الافتتاحية (الترويسة) نفسها.

أما الجزء الأول من هذا الكتاب فقد كرسناه لدراسة لهجة حضرموت كما قدمها الكونت كارلو دي لاندبرج، الذي يرى أن هناك سمات لغوية مشتركة يتميّز بها غالبية الحضارم حينما يتكلمون بتلقائية، مثل نطق الجيم ياءً، أو استخدام الفعل (بغى) في مكان أراد، أو كلمة (حق) مضافا إليها الضمير المتصل في مكان ضمير الملكية. وهذه الظواهر تبرّر نسبيّاً استخدام لاندبرج لمفهوم (لهجة حضرموت)، وذلك على الرغم من تسليمه بضرورة التمييز بين لهجة البدو ولهجة الحضر في حضرموت.
وإذا ما توخينا الدقة علينا الاعتراف بأن اللهجة الحضرمية التي يقدمها لاندبرج في كتاباته هي لهجة وادي حضرموت، وليس ساحلها، وذلك لأن مخبريه – منصور باضريس والمطرب سعيد عوض والعبد سالمين، ينتمون للداخل، أي وادي حضرموت، وتحديدا من الغرفة وشبام اللتين تقعان غربي سيئون. كما أن معظم النصوص التي يتكئ عليها لاندبرج لتقديم تلك اللهجة ترتبط بالحياة في الوادي، وجميع النصوص النثرية التي يتضمنها فصل (المهن في حضرموت) تقدم تلك الحرف التي تُمارس في الداخل باستثناء النص الأول، والموجز جدا، الذي يتعلق بمهنة (البياع والمشتري، التاجر)، وفيه تبرز مهنة التجارة كما تمارس في ميناء المكلا، وتبرز فيه كلمات لها علاقة بلهجة الساحل مثل: بخاخير وبالصبر أي بالدين.
وعلينا أن نشير كذلك إلى أن اللهجة التي يقدمها لاندبرج هي في الأساس لهجة مخبريه (من الغرفة وشبام)، وفي حالة النصوص الشعرية لهجة مؤلفي تلك النصوص. ومن المسلم به اليوم أن هناك قليلا من الفروقات تبرز بين لهجة كل منطقة في حضرموت، على مستوى الساحل والوادي. وأحسن مثال على ذلك أن سكان الغرفة ووادي بن علي يطلقون على الحوض الذي ينسكب فيه ماء الغرب أثناء عملية السناوة: الراحة، بينما يطلق عليه سكان سيئون وتريم: الثارة. وقد اعتمد لاندبرج تسمية مخبره من الغرفة: راحة، ونفى وجود كلمة الثارة في حضرموت التي جاءت في كتابات السيد عثمان بن يحيى، كما أشار هو إلى ذلك في كتابه.
وبالنسبة للأسلوب الذي اتبعه لاندبرج في تأليف كتابه (لهجة حضرموت) الذي يشكل المجلد الأول من مؤلفه الضخم (دراسات في لهجات جنوب الجزيرة العربية)، والذي يقع في 774 صفحة من الحجم الكبير، نلاحظ أنه، بعد تقديم النص (الحضرمي) بالحروف اللاتينية يحرره بالحروف العربية مثلما سمعه من مخبريه (يُستثناء من ذلك النص الخاص بمهنة الجمَّال)، ثم يلحق النص العربي بترجمته إلى اللغة الفرنسية، وبعد ذلك يأتي (التعليق Le Commentaire) باللغة الفرنسية. ويشكل التعليق الجزء الأكبر من الكتاب.
وبما أن الهدف الرئيس من الكتاب يكمن في تقديم دراسة عن لهجة حضرموت، فالمؤلف يركز في (التعليق) على الشروحات اللغوية المختلفة، ويعطي الاهتمام الكبر بالمستوى المعجمي. كما أنه لا يهمل المعلومات الاثنولوجية والاجتماعية والجغرافية والدينية المرتبطة بالكلمات أو الحرف أو النصوص التي يقدمها.
وفي سياق التعليق يحاول لاندبرج عادة مناقشة آراء بعض زملائه اللغويين؛ فهو يورد مثلا ما كتبه المستعرب نولدكه الذي يقرّب بين وكن ووكر بواسطة تأثير الجذور السامية في بعضها بعض. ويؤكد أن أشهر علماء الساميات في عصره [نهاية القرن التاسع عشر]، بيتراج يؤكد أولوية الجذر الثنائي في اللغات السامية. وقد أنهي لاندبرج مقدمته للجزء الأخير من كتابه (دراسات في لهجات جنوب الجزيرة العربية: مسرد مفردات لهجة دثينة، ص4) قائلا: “لم نستطع بعد أن نكتشف الدوافع المعنوية (الدلالية) التي أدت إلى إضافة الحرف الثالث للأفعال في اللغات السامية، وحتى في العربية نفسها على الرغم من ثراء معجمها وتنوعه. لهذا تظل اللهجات العربية دائما هي القادرة على رفدنا بالمؤشرات التي يمكن أن تفسّر الانتقال إلى (ثلاثية) الجذر اللغوي. ولم يتم دراسة هذه اللهجات حتى اليوم [1900] فلم يدرس أحد بعد لهجات قبائل الربع الخالي، التي ينبغي أن نوجّه إليها دراساتنا. لكن لا يمكن تجاوز المصاعب اليوم”.
في هذا الجزء الأول من الكتاب، بعد أن نقدّم نبذة سريعة عن المستشرق السويدي كارلو دي لاندبرج، نتناول التغييرات الصوتية والصرفية التي رصدها كارلو دي لاندبرج في لهجة حضرموت. ثم تطرقنا لبعض السمات النحوية للهجة حضرموت في كتابات لاندبرج. ثم استعرضنا المعطيات المعجمية الكثيرة التي قدمها لاندبرج عن لهجة حضرموت في مؤلفه (دراسات في لهجات جنوب الجزيرة العربية)، وقد ركزنا فيه على طرق شرحه للكلمات باستخدام طرق التعريف المستخدمة عادةً في المعاجم. وأشرنا كذلك إلى التطورات التي يمكن أن تكون قد طرأت على استخدام المفردة المشروحة أو اختفائها اليوم. وفي نهاية دراستنا عن لاندبرج أوردنا النصوص الشعرية والنثرية التي اتكأ عليها المؤلف لتقديم لهجة حضرموت.
ونتمنى أن نكون، بهذا الجهد المتواضع، قد وفقنا في تقديم أبرز ما جاء في كتابات كل من فان دن بيرخ والكونت السويدي كارلو دي لاندبرج حول لهجة حضرموت، التي -حسب علمنا- لم تنل حتى اليوم أي دراسة في أي لغة.
مسعود عمشوش
عدن ٥ مايو ٢٠٢٥

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى