كتاب عدن

وداعاً أبا هشام أجمل سفراء مصر..



زرته في شقته في أول الفيصل أربع مرات ، ومرة خامسة ذهبت إليه في قهوة ( الإخوة ) بجوار مسكنه المتواضع .
في الزيارات الثلاث الأولى من عام ٢٠١٨م كان بمعية شريكة حياته ، وكان شعلة من الحيوية ، تحدث عن ذكرياته الجميلة في مدينة الضالع ، وكيف استقبله طلابه والاهالي بكرم وود فائضين .

سأل عن أسماء أشخاص عاديين ، مازال يحفظ لهم الجميل بخدمته ، أحدهم سائق دراجة ، واخر بائع خضرة ، وثالث كان يوصل طلباته إلى حيثما ينزل في دار الضيافة ، وثلاثتهم طوعًا ودونما اي مقابل مادي .

في اخر زيارتين ذهبت بمعية الصديقين الرائعين الشقيقين صالح ومحمد علي الفقيه الشاعري ، وجدناه وحيدا وحزينا ، أخبرنا برحيل زوجته اثر مرض عضال .

أخفى وجعه ورزيته في ثنايا روحه ، أخذ يروي لنا ذكريات استوطنت ذاكرته ، جلسة ممتعة حضرها نجله هشام ، مضى الوقت سريعا .
قال لنا أن المدة القصيرة التي قضاها معلمًا في ثانوية ابو عشيم ، هي أجمل أيامه ، بسبب ما لقيه من محبة وحفاوة وإحترام .
وعندما سألته عن القات ، ضحك فلم يخف ولعه بهذه النبتة ، أجاب : آه خزنت كتير مرات ، وأعجبني كتير القات الشعيبي ، كنت احس حالي في السماء ، شيء رهيب ولذيذ “.

حدثنا عن مأساة ١٣ يناير ١٩٨٦م وكيف وجد ذاته ورفاقه المصريين يعيشون حالة قاسية ومرعبة في مدينة التواهي ، حيثما قدر له الذهاب الى هناك بغرض تسليم أحد رفاقه المصريين رسالة ومال مدخرا أراد إيصاله إلى عائلته في القاهرة .

وهذه الزيارة السريعة تحولت إلى أيام من الحصار والرعب الناتجين عن تلك الأحداث المأساوية ، سرد تفاصيل تلك اللحظات القاسية بتأثر لا يخلو من الضحك ، وكيف كانت تتساقط القذائف والصواريخ على المدينة وبشكل مرعب .

ربما تساءل البعض عن سر تعلقنا بهذا المعلم المصري ولماذا كل هذا الحب والوفاء لشخصه وفي وقت كانت المدرسة تعج بعشرات المعلمين الفلسطينين والسوريين واليمنيين ؟! .
والحقيقة أن حبنا له لم يكن فحسب كأول مصري يأتينا بعد قطيعة بين مصر والدول العربية ، وبموجب عقد منحته إياه دولة الكويت ، وإنما لقدراته العلمية الفائقة ، وأسلوبه وطريقة تعامله معنا ، انغماسه كليا في حياتنا ومشاركته افراح واتراح الجميع ، لقد أضحى شخصًا منا .

لا أحد يشبه عالم الفيزياء الاتي من كوكب الكنانة ، فيكفي القول إنه لا أحد قبله أو بعده قدر له تفكيك وتبسيط المادة الصعبة ، وجعلها يسيرة ومرغوبة ومستوعبة في ذهن كافة طلابه ، لعمري ما قد رأيت معلمًا بتلك القدرة الخارقة الجاذبة لكل لبيب .

لقد كان نابغة ، دائما ما سألت ذاتي : لو ان كل معلم بمؤهلات الفقيد فهيم ربما كان حال التعليم أفضل ولما استعصت على الطلاب المواد العلمية وحتى لغتنا العربية ؟.
تخيلوا فقط أننا وقبل الجلوس لامتحان إنهاء الشهادة الثانوية فضلنا الفيزياء على التاريخ المادة الشيقة والسهلة ، باستثناء قلة لا يتعدى عددهم اصبع اليد أو الأثنتين ، ونتيجة لرغبتهم الالتحاق بكلية الحقوق .
كان المنهج شاملا والطالب مخيرا بحذف إحدى المواد الأربع ، فيزياء ، كيمياء ، جغرافيا ، تاريخ .

منتصف يناير المنصرم تواصلت معه بخصوص رغبة أحد تلاميذه لقائه فرد وبلكنة مصرية محببة ” اله دي تحتاج استئذان استاذ محمد ، حبيبي اهلا وسهلا بكم ، انا تحت امركم في اي وقت وفي أي مكان ياه على الجمال والتواصل مع الاحباب ” .

زاره الشيخ غالب مطلق في ذاك المساء البارد من كانون الثاني ، وكم كانت سعادته تعانق النجوم والكواكب ؟! .

طبعا بقيت على تواصل معه في ” الواتساب ” و” الفيس بوك ” ، وكنت ارد على كل ما يكتبه ، محبة وشغفا بابي هشام ، ومراعاة لحالته الصحية ، اكتفي فقط برد مقتضب أو تهنئة بمناسبة .
وكان آخر ما وصلني منه تعليقا لطيفا قبل عشرة أيام تقريبا ، عندما سألته عن صحته أجاب : ” حبيبي ، افضل رجاله رجال الضالع ، تحياتي لكم جميعا ، وانا بخير والحمد لله ، ارجو التواصل أيام لم ولن تنسى ابدا ” .

وفي إحدى رسائله أخبرني فرحا بوجود عائلة ضالعية سكنت بجواره في شقق العمارة : ” الان يسكن بجانبي ناس من الشعيب ، أنت فاكر مين كان مدرس الأحياء هو أبو بكر السعدي ” .

هنالك الكثير مما سرده ، سأحتفظ بها لنفسي ، وما يصلح للنشر سأكتبه في تناولات قابلة وفي سياق آخر . المهم ان محمد فهيم كان مخلصا لرسالته ، محبًا للناس ، وفيًا للمدينة وأهلها ، مباهيًا بهم جميعًا والى اخر لحظات حياته ..
الرحمة والمغفرة تغشى فقيدنا الراحل محمد فهيم عبد العال ، ولروحه السلام والطمأنينة ، وليسكنه الله جنان الفردوس ، بجوار الأنبياء والشهداء والصالحين.
خالص التعازي والمواساة إلى ابنائه وأقاربه وذويه ومحبيه واصدقائه ، عظم الله اجركم جميعا ، والهمكم الصبر والسلوان ، وإنا لله وإنا إليه راجعون..

تلميذك / محمد علي محسن

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد ايضا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى