أيها النائم في ثرى النقاء..

*بسم الله الرحمن الرحيم*
{ *كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ* …}
أيّها النائم في ثرى النقاء،
أيها الساكن في ذاكرة الأرواح،
أيها العابر إلينا كلما اشتدّ الحنين…
العَبَرات تختنق في المآقي،
والكلماتُ تموت على أعتاب الحناجر،
والآهاتُ ترتجفُ في صدورٍ ممزقة لا تملك غير الصمت أنينًا…
اليوم لا شيء يُقال…
فكل الحروف مكسورة،
وكل الجُمل مذبوحة على بوابة الرحيل،
وكل المعاني تكسّرت تحت وطأة الفقد.
ما أثقل اللحظة،
وما أوجع الرحيل،
وما أقسى أن نكتب عنك الآن بصيغة الغياب،
وأنت الذي كنت الحضور كله،
والهيبة كلها،
والنقاء كله.
بقلوب مفجوعة لا تجد سبيلاً للسلوان، نرثي اليوم علماً من أعلام اللغة العربية، ونودّع قامة تربوية باسقة، ومربياً فاضلاً، وأستاذاً قلّ أن يجود الزمان بمثله…
نودّع الأستاذ القدير، صاحب الخُلُق النبيل، والسيرة الطاهرة، والنفس الأبية الأستاذ الدكتور محمد حسين مقبل ( النميري )
رحل الأستاذ الجليل، المربّي القدير، صاحب السمت الوقور، والعقل المستنير، واللسان الطيب، والقلب الطاهر العفيف.
رحل رجلٌ لم يكن مجرّد أستاذ لغة،
بل كان لغةً تمشي بيننا:
لغةُ صدق، لغةُ تقوى، لغةُ علمٍ تفيض، ولا تتكلّف،
لغةُ تواضعٍ وأنفةٍ وحياءٍ وأخلاق.
نبكيكَ أستاذنا كما لم نبكِ من قبل،
نبكيكَ وقلوبنا مخنوقة بالعبرات،
وأرواحنا مغمورة بالحزن،
*والألم يغزل فينا وشاحًا أسودَ لا ينزعهُ الزمن.*
أيها النقي…
ما عهدناك إلا طيفًا أبيض،
يمرّ في الأروقة فيسكن القلوب،
يبتسم برفق فيُنبت الأمل،
يتكلّم فيصمت الجميع هيبةً، ومحبة.
رحلت، فانهالت علينا سهام الألم،
واكتست الضالع سواد الأرصفة،
ولبست جحاف لباس الحزن والحداد،
وصارت اللغة باهتة، إذ أنها فقدت اليوم أحد فرسانها النبلاء.
عبراتنا اليوم ليست دموعًا،
بل سكاكين تُقطع أرواحنا تقطيعًا،
والكلمات ليست تعزية،
بل شهقات موتٍ تخرج ولا تعود.
إننا اليوم لنودّع النبل في أبهى تجلّيه،
والرجولة حين تمشي متواضعة،
والعلم حين يتكلّم همسًا لا صخبًا،
والدين حين يورِق سلوكًا لا ادّعاءَ.
كيف جفّت كلماتك اليوم وأنتَ من كنتَ تُروينا أعذب البيان؟
أيها الراحل النقي،
أيها الطاهر الحيي،
يا مَن حملت العربية في قلبك، والدين في خُلقك، والعفة في خُطاك،
كيف تترجل هكذا، وتتركنا نواجه خواء المكان وثقل الغياب؟
كيف تُختَصَر حياتك في نعشٍ صغير؟
كيف يُطوَى كل هذا النور في حفرةٍ من تراب؟
لقد كنت من أولئك الذين لا يُعوّض غيابهم،
ولا يُنسى ذكرهم،
ولا يُملّ من الحديث عنهم بعد الرحيل…
بل يزداد الشوق إليهم كلّما غابوا، ويكبر وجعهم كلّما مرّ الوقت.
أيها الراحل في زمنٍ قلّ فيه الأوفياء، لم تمت،
بل انكسرت فينا الحياة،
وتبعثرَ فينا اليقين،
وغدونا نَجرُّ ذيول العزاء في دروبٍ ما عادت تعرفك إلا غائبًا.
نمْ هادئًا أستاذي كما كنتَ هادئاً من قبل ولتنم روحك الطاهرة،
فلست فقيد أُسرة فقط، بل فقيد وطن، وفقيد أجيالٍ تتلمذت على طهارتك، وعاشت على أطلال حروفك .
لقد رحلت، لكن من أين لنا أن نُقنع أنفسنا وأعيننا بذلك؟
سلام عليك في رحيلك،
سلام على قبرك،
سلام على عطرك الذي لن ينطفئ…
رحمك الله، رحمةً تليق بقلبٍ ما عرف غير النقاء،
وروحٍ ما خالطها زيف، ووجهٍ ما انحنى لغير خالقه.
تعازينا لأنفسنا أولاً، ثم للصديق النبيل، الأخ الخلوق عبدالله حسين، ولأبنائك ، وأهلك ، وكل من أحبّك ..
اللهمّ، هذا عبدك الطاهر، جاءك وقد انطفأ فيه التعب،
اللهمّ استقبله بوجهٍ راضٍ، وارحمه يا الله رحمةً واسعة،
واجعل الفردوس الأعلى مأواه،
وألهمنا وأهله وطلابه ومحبيه الصبر والرضا.
*{ إنا لله وإنا إليه راجعون }* .
*شوقي الجحافي*



