ماهو دور الفيلسوف في الحرب..؟!

قد يظن البعض أن صوت الفكر يتلاشى في زمن القتال، لكن الحقيقة أن أكثر اللحظات حاجة إلى الفلسفة هي تلك التي تفقد فيها البشرية بوصلتها الأخلاقية
ليس للفيلسوف سلاح غير فكره، ولا درع سوى ضميره. وبينما تنطلق القذائف وتقرع طبول الحرب، يقف وحده، هامسا في صخب الجنون، متحديا هذا العنف بمنطق السؤال. يراقب من وراء الضجيج ما لا يراه غيره: سقوط الإنسان تحت ركام الشعارات، وانهيار المعنى تحت الحطام
الفيلسوف لا يبحث عن نصر ولا هزيمة، بل عن الحقيقة التي تغتال كلما اشتعلت النيران. لا تهمه خرائط الجغرافيا بل الخرائط الخفية في العقول التي يعاد رسمها بالحقد والخوف.
انه لا يقف على ضفة المنتصرين، ولا يصطف مع المهزومين، بل ينحاز دائما الى ما يتجاوز الانتصار والهزيمة: الى الحقيقة، والعدالة، والكرامة الانسانية
في زمن الحرب تكون الشجاعة الكبرى أن تسأل.
تسأل عن جدوى القتل، عن أسباب الكراهية، عن منطق العداء، عن مصدر الخطاب الذي يحشد الجموع نحو المجازر. من أين جاء؟ من يخدم؟ ولماذا لا يناقش؟
الفيلسوف لا يحمل بندقية، لكنه يزرع الشك في يد من يحملها. لا يعتلي منصة سياسية، لكنه ينصت لصوت الضمير، يسائل، يفتش عن منطق ضاع في متاهات التحريض، وعن انسانية جرفت تحت اقدام الشعارات الصاخبة.
ما دور الفيلسوف في الحرب؟
ان يفضح المسكوت عنه، ان يرفض تبرير الدم بالمقدس او بالتاريخ او بالتراث او بالخوف. ان يسأل السؤال الممنوع: هل ما يقال لنا هو الحقيقة؟ هل العدو عدو لان جوهره شرير، ام لان مصالحنا تقتضي شيطنته؟ هل الوطن يبنى بالدم، ام بالحوار؟ هل الدفاع عن القيم يعني سحق المختلف، ام احتواءه؟
هذه الاسئلة لا تصدر الا عن شجاعة من طراز خاص: شجاعة الوقوف في وجه القطيع حين يندفع نحو الهاوية.
الفيلسوف في الحرب لا يقترح استراتيجيات، بل يعيد ترتيب البوصلة الاخلاقية. انه لا يهمه كم عدد الجنود، بل كم عدد الاكاذيب التي صدقت حتى يبرر تجنيدهم. هو لا يدون الخرائط، بل يمزق خرائط الكراهية التي ترسم على جدران العقول
احيانا، يكون صوت الفيلسوف همسا، لا يسمع وسط الجلبة. لكنه يبقى. ينقش اسئلته في الوعي الجمعي، كمن يزرع الغاما مضادة للجهل والتعصب في حقول الزمن. وربما بعد سنين، حين تتوقف المعركة، ويبدأ الناس في عد الخسائر، يظهر صوت ذاك السؤال القديم: لماذا فعلنا ذلك؟ وهنا يتضح ان الفيلسوف لم يكن صامتا، بل كان يتحدث بلغة لا يفهمها زمن الحرب، لكنها ضرورية لزمن السلام.
وليس ابلغ من الفيلسوف سقراط، الذي اثر الموت على ان يتخلى عن التفكير الحر في مدينة مزقتها الانقسامات، ولا اعظم من رسائل تولستوي وهو يناهض العنف باسم الحب، ولا اصدق من صرخة جان بول سارتر: اذا لم نسائل الحرب، فنحن نبررها
هؤلاء لم يمنعوا الحروب، لكنهم اعادوا للانسان وجهه، حين تخلى عنه
دور الفيلسوف في الحرب هو ان يكون شاهدا لا يوقع، ومفكرا لا يستدرج، وبوصلة لا تبرمج. ان يصر على ان الدم لا يغسل الخطأ، وان الطغيان لا يصلح بالقوة، وان الكرامة لا تستعاد بالقنابل، بل بالفهم والاعتراف واعادة بناء المعنى.
الحرب لا تنتصر على الفلاسفة، حتى وان اسكتت اصواتهم مؤقتا. لان الكلمة التي تقال بصدق، ولو في زمن الجنون، تبقى. تنمو تحت الرماد، وتشقق طريقها الى ضمير العالم، شاهدة على ان الانسانية لم تكن نائمة تماما، بل كانت تحاول ان تتنفس عبر اسئلة فيلسوف.
إن دور الفيلسوف في الحرب ليس أن يصرخ، بل أن يبقى. أن يظل واقفا حين يجثو الجميع. أن يحتفظ بالسؤال حيا، حتى لا يموت المعنى
وفي النهاية، قد تخرس الحرب صوت الفلاسفة، لكنها لا تستطيع أن تطفئ نور أسئلتهم.
ابتهال عبدالوهاب



