بديهة زياد… غزالة فاتنة لا يمكن اللحاق بها.

د.هدى العطاس.
ذات صباح اتصل بي صديقي المقرب من زياد الرحباني وواحد من مساكب فضفضاته على ما يقول المثل الحضرمي “الماء له مناكب والحال له مساكب” فضفضات زياد الغاضبة الناقدة اتمستبصرة مآلات تفاقم اوضاع لبنان في الثلاث سنوات التي سبقت خروج اللبنانيين إلى الشارع وتصاعد احتجاجهم عام 2019. ومن ثم دخول البلد الأحب في انفاق مظلمة لم يخرج منها حتى اللحظة. واحزان وفقدانات ليس اقلها فقدها وفقدنا زياد الرحباني وتمثلاته (العبقرية، الفرادة، الاختلاف. ورمزية بصمته الدالة على بصمات لبنان وتميزه الفني. وتوقيعات ختمه الشخصي والموسيقي في المشهد اللبناني المعاصر. وفي تاريخ الموسيقى العربية وذائقة شعوبها وتجليات ازمانها) فقد زياد الذي سيتعاظم حزن لبنان وحزننا عليه كلما تقدم الوقت وتطاول الغياب وقر في قلوبنا الشوق الذي لا رجاء في صد قضائه وقدره.
عبر الهاتف سألني صديقي اذا كنت أرغب الذهاب معه لرؤية زياد اثناء البروفات في الاستديو الذي يقع في شارع الحمراء .
ولشدة حماستي رديت بالعدني: من صدقك بتسأل!! مااالك؟!.
ضحك وقال: هل تقدر ي تجهزي في ربع ساعة.د؟
: وفي عشر دقائق كمان.
بعد أن طبقت السماعة وعيت لورطة الربع ساعة التي حشُرت فيها.
ربع ساعة لا تكفي لضبط أناقة ملابسي فقط فكيف ببقية التفاصيل! في بيروت التي لا يرضيها إلا أن تكون بكامل أناقتك حتى لو كنت ذاهبا لشراء الخبز!!
وصلنا الاستديو ولكن زياد لم يكن هناك. اتصل صديقي ليخبره أنه ينتظره مع اديبة يمنية تريد أن تسلم عليه. تناهى الي صوت زياد متعبا متحشرجا يعتذر.
عدت إلى المنزل بخيبتي وارهاق ربع الساعة التي استنفذت بتحديها وسرعتها طاقتي. وإذ بصديقي يتصل ليخبرني أن زياد دعانا على منزله الليلة قائلا له : تعا أنت و ” الاديبة، الصبية اليمنية”. في لبنان لا تشبخ النساء.. فهن صبايا وإن تجاوزن الثمانين. وهذا أحد فخاخ عشقها الذي توقعنا فيه.
فاجأني الديكور الأسود في منزل زياد، يكحل كل زوايا الصالون. الذي ألتهم نصف مساحته طقم كنب متشاوف في لمعة سواده الابنوسي.
وترني ديكور الصالون المتقشف إلا من السواد. ولكن ما أن جلس زياد حتى بدد توتري بدعاباته وظرافة حكيه ووده. واستغراقي احيانا في مراقبة جهوزية بديهته المرعبة وذكاء ردوده! مما أتذكر منها أنه التفت لصديقي الذي يشترك ويا زياد بانفيهما الكبيرين النائفين. قائلا تعرف ليه أنت صديقي؟ منشان ما يظل منخاري وحيد…
وواصل قبل أن يرد صديقي المشهور هو الآخر ببديهته الحاضرة ولسانه الدرب ولكن من أين له أن يلحق بالغزالة الراكضة في ذهن زياد المتقد!
: ليك محظوظ.. إنه منخارنا على بعضن وقعوا!! أحسن ما وقعوا على وجه اشيء سياسي عميل كسر إلنا ياهن. ضجينا بالضحك. بينما زياد واصل: يا خيي المنخار شغلة كبيرة.!! وأخذ يسرد علينا بعض المواقف الظريفة التي واجهها بسبب أنفه البارز. وتندرات ألفها ساعتها عن انوف أخرى معظمها لسياسيين. ثم منشرحا ومتذكرا انتقل بنا إلى أرض الرافدين حاكيا لنا تفاصيل اول زيارة له للعراق. ظللنا في ضحك متواصل لا ينقطع طوال السهرة. وود وضيافة على بساطتها كريمة غمرها زياد بظرافة روحه وتواضعه وألفة مجلسه وحديثه.
اجتمعت في زياد الرحباني .ملكات متعددة على صلة بالفن والتعبير قلما تجتمع لأحد بهذا الظهور العبقري. غير أن البديهة في رأيي تُنظٍّم عقدها وتمثل قلب الدينامو المحرض لتجليها.
و البديهة ليست فقط ذلك الاختزال الشائع في القدرة على الرد وسرعة الجواب.
إنما هناك ماهو اهم واساسي في فعلها ومزيتها. وهو سرعة التقاط ذبذبات أي أمر فعل أو حديث أو مشهد وادراك تناسبها وحجمها وضبط لحظة التعامل معها. وهذه كانت عبقرية البديهة الفنية التي امتلكتها موهبة زياد الموسيقية. وكانت في ابهى تجليها حينما انتبهت بديهة الموسيقار فيه لضرورة الانتقال بعبقرية صوت والدته فيروز التي كانت حتى منتصف الثمانينات من القرن المنصرم ما تزال واقفة على رصيف الرحابنة الأباء. فسارعت بديهتة التي لاتبارى أخذ يدها قبل أن” تذبل في شتاء التقليدية الرحبانية” لقد هدته بديهته الفنية الراكضة في حقول ذائقات وممارسات موسيقية متنوعة عربية وغربية. أنه قد حان تجديد وتحديث مناهج مدرسة أبيه وعمه. وكان لعبقريته الفنيه نصيب حظ وافر بملكه بديهة تنبؤية ابصرت ما بعد اللحظة الفنية التي يقف فيها. لربما نسغ ملكته هذه ينتهي نسبا إلى “زرقاء اليمامة”
استشعرت بديهة زياد السباقة السريعة ذائقة الجيل الذي يوشك التجديد الفني وموجته الشبابية الصاعدة آنذاك “منير ودياب والشاعري والساهر و علامة وشعيل والرباعي وقائمة طويلة من الملحنيين والفنانيين العرب بدأت تستحوذ على ذائقة الجيل السبعيني والثمانيني وتلتهمها.
وأن مدرسة الرحبانية الكلاسيكية استنفذت زمنها وغير صالحة للاجترار. ووجب تجديدها بالتقاطع مع بعض أرث اشراقاتها اللحنية. والخروج منها بخلق موازاة وفرادة موسيقية في تأليف الحان ونصوص شعرية واغراض غنائية حديثة مواكبة. وهكذا منحتنا عبقرية موهبته وبديهته الموسيقية نسخة فيروز الباذخة في حداثتها وعصرنتها. نسخة فيروز “الزيادية” في الوقت نفسه ليست على قطيعة ولا تنافس مع نسختها الرحبانية التقليدية السابق. بل إجاد زياد ضبط مقاييس نسخته الجديدة بما لا يخل بوئام تاريخ فيروز كظاهرة فنية. وأن لا تقل بذخا وشهوقا فنيا عن نسخة عاصي ومنصور. وهكذا اهتدت بديهة زياد الراكضة في حقول الفرادة إلى اجتراح خط موسيقي “زيادي” خاص وتأليف نصوص بدت صادمة في قاعيتها وعافية تفاصيلها التي تحولت إلى اغان مبهرة بصياغاته الموسيقية وفذ موهبته.
وقد حقق غايته في تحديث المدرسة الرحبانية وتواصل تجربتها ليس بكونه غصن في شجرتها إنما بكونه شجرة فنية مستقلة مثمرة. وهكذا ضخت موسيقى زياد شغف متجدد وشغوفون جدد سيغدون متعبدين في محراب الغناء الفيروزي. وهكذا ايضا أهدى فيروز تذكرة مفتوحة لا ينقضي أجل صلاحيتها في قطار الذائقة العربية ومحطات اجيالها المتنوعة منذ “معرفتي فيك” 1987 وكأن عنوان الألبوم هذا يفسر مرحلة كاملة لما بعده اراد زياد عبرها القول: أنه عرف وأدرك أبعاد ومساحات وفرادة مخبئة في صوت فيروز لم يدركها ويعرفها سواه. وستشكل لهما قدرا فنيا جديدا ومائزا يربط تجربتهما معا. ويحجز مكانا للإبن العبقري جوار الأم الايقونة في كبسولة الزمن التي تمخر التاريخ خبيئة محفوظة لكنوز الذاكرة البشرية.
رحم الله الفنان زياد الرحباني وإرضَاء روحه وايكنه جنات نعيمه الابدي كما اسعدنا بموهبته وفنه في الأرض. آمين



