حل الدولتين: وعود المؤتمرات وتفكيك الواقع

ربى عياش
التصريحات الإعلامية والسياسية حول القضية الفلسطينية لا تتناسب مع الواقع على الأرض. إذا أردتَ أن ترى هذه المفارقة بعيون شاهد عائد من الضفة الغربية، ستتضح لك الفجوة المتعاظمة بين ما يُقال على المنصات الدولية وبين ما يُعاش فعليًا في الشوارع، بين البيوت، وعلى المعابر.
التحركات الدولية ما زالت تقتصر على اجتماعات وزارية ومؤتمرات تحمل عناوين رنانة، كان آخرها مؤتمر “حل الدولتين” في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، وكما جرت العادة، تخرج هذه المؤتمرات بتصريحات مكررة تحمل عبارات مستهلكة ومتهالكة، مثل “تأسيس سيادة لدولة فلسطينية،” “التوصل إلى حل دائم وعادل،” و”إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني.” لكن الواقع على الأرض مختلف تمامًا، بل مناقض.
في الضفة الغربية، يتجلى الواقع في سيطرة أمنية وعسكرية إسرائيلية شاملة. في مدن مثل جنين، لا وجود فعليا لقوات الأمن الفلسطينية، لا لتنظيم السير، ولا لضبط الأسواق، ولا لفرض النظام. فأيّ سيادة فلسطينية يمكن الحديث عنها؟ وكيف يمكن مناقشة حلول في ظل واقع مشوب بالتحديات الجغرافية، اللوجستية، الخدماتية، والأمنية؟
دور السلطة الفلسطينية بات محصورًا في تقديم الحد الأدنى من الخدمات الإدارية، بوجود رمزي بالكاد يحرك عجلة الحياة. فالطرق الرئيسية بين المدن الفلسطينية تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، والحواجز بين المدن تخضع لمزاج الجيش الإسرائيلي. والمعابر تُدار وتُغلق بقرارات إسرائيلية، والوضع الاقتصادي خانق، مقيد بقرارات إسرائيل ومزاجية سلطاتها. أمنيًا، الاعتقالات يومية، والرد على أيّ شكل من أشكال التعبير الشعبي، حتى لو كان رمزيًا كالوردة، يواجه بالقوة المفرطة.
إذًا، مقابل هذه السياسات المستمرة علنًا وبصمت، عن أيّ دولة فلسطينية نتحدث؟ وأيّ حل دولتين يُطرح؟ وأيّ سيادة يجري الترويج لها؟ الواقع يؤكد أننا أبعد ما نكون عن حل عادل للقضية الفلسطينية.
◄ دور السلطة الفلسطينية بات محصورًا في تقديم الحد الأدنى من الخدمات الإدارية وبوجود رمزي بالكاد يحرك عجلة الحياة. فالطرق الرئيسية تحت السيطرة الإسرائيلية والحواجز بين المدن تخضع لمزاج الجيش الإسرائيلي
كشاهد عائد مؤخرًا من الضفة الغربية، وبالأخص من جنين، أستطيع القول إن كل خطوة إسرائيلية تشير إلى مشروع توسعي فعلي، وليس إلى تسوية. سيناريو فرض سيادة إسرائيلية قانونية ورسمية على الضفة قد يصبح قريبًا جدًا. هناك مسار واضح لعزل المدن الفلسطينية وتحويلها إلى تجمعات سكانية محاطة بجدران وحواجز وسيطرة عسكرية واقتصادية تامة.
في المقابل، تبدو السلطة الفلسطينية ككيان إداري مهدد، مستقبله غامض. هل ستبقى كسلطة خدمات محدودة؟ أم يجري تفكيكها تدريجيًا؟ وهل فكرة الانفصال السياسي عن رام الله، التي طُرحت في الخليل، قد تُصبح نموذجًا تجريبيًا لإدارة كل منطقة فلسطينية بشكل مستقل؟
الواضح أن هناك فصلًا قائمًا بالفعل، ليس فقط بين غزة والضفة، بل حتى داخل الضفة نفسها. فلسطيني رام الله ليس كفلسطيني جنين، لا في ظروفه، ولا في خدماته، ولا في أمنه. هذه الفجوة تتجلى في ضعف التنظيم، البنية التحتية، ضبط الأسواق، منع الفوضى الأمنية، وحتى صرف الرواتب. هذه ليست تفاصيل حياتية بسيطة، بل غياب قدرة شاملة على الإدارة، وواقع منفصل تمامًا عمّا يُقال في الخطابات الإعلامية.
غزة، من جانبها، خارج الحسابات تمامًا. هي قضية إنسانية مرعبة تُركت للموت أو للضجيج الإعلامي الموسمي، دون محاولات فعلية لفهم حجم المأساة هناك. السلطة الفلسطينية عاجزة عن إدارتها، والواقع يؤكد أن مستقبل فلسطين، واقعًا ومصيرًا، ليس بيد الفلسطينيين، بل بيد إسرائيل.
وحدها الجهات القادرة على الضغط على تل أبيب بشكل جدي يمكنها إحداث فرق. لكن التحركات الدولية، بكل مؤتمراتها وقممها، تُنتج خطابات مكررة دون خطوات عملية. لا حلول، لا حماية، ولا حتى اعتراف بأن إسرائيل تسير بخطى ثابتة لنسف أيّ إمكانية لسيادة فلسطينية. الواقع في الضفة هو تفكيك للمدن، الحياة اليومية، الترابط، والهوية الواحدة، ما يجعل “دولة فلسطينية” مجرد شعار بعيد عن التنفيذ.
الانقسام الداخلي بين فتح وحماس يُضعف أيّ جبهة فلسطينية موحدة، ما يعيق الضغط السياسي. ربما نحتاج إلى راية جديدة وهيكلية موحدة تجمع الفلسطينيين للخروج من هذا المأزق. الحل قد يتمثل في إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية لفرض القانون، تعزيز الشفافية والمحاسبة لاستعادة ثقة المواطن، وتوحيد الصف الفلسطيني. دون هذه الخطوات، سيستمر الإحباط، ويزداد التشتت، ويُعمق اليأس، وستبقى “دولة فلسطين” حبرًا على ورق.العرب




