كتاب عدن

ومَضَات الشوارع… وظُلُمَات البُيُوت: حكاية خِدَاعٍ اسمها “الدولة”




بقلم: محمد علي محمد أحمد



في سكون ممتع ورحلة مضيئة..
​كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة ليلاً، وأنا أعود إلى المنزل بعد غياب دام منذ العصر، في قضاء الوقت مع الأصدقاء ، نتبادل أطراف الحديث في محاولة يائسة لتخفيف ثقل الهموم اليومية، كأنها أشبه بمسكن مؤقت لأوجاع لا تزول.

وبينما كانت سيارة صديقي تشق طريق العودة، كانت الشوارع تزدحم بالحياة الزائفة، الأضواء تتلألأ في المحلات، واجهات المحال التجارية تزهو بألوانها البراقة، والمارة يتسوقون في أجواء توحي بالاستقرار والرخاء، ونسمة هواء لطيفة تدخل من نافذة السيارة، فتزيد المشهد جمالاً، وتهمس لي بأن الأمور تسير على ما يرام في هذه المدينة الصامدة “حبيبتي عدن”

​ فإذا بتحول مفاجئ يصدمني..
فما إن ​وصلت إلى حارتي، ثم إلى مأواي، طرقت الباب، ففتح لي ولدي وهو يتصبب عرقاً، وعلى وجهه إمارات الإجهاد، وبمجرد أن وطأت قدمي عتبة الدار، تبدّل المشهد كلياً، صمت مطبق، ظلام دامس لا أكاد أرى كف يدي فيه.

​أين أنتم؟ ما الذي حدث؟ ولماذا كل هذا السواد؟”
​نظرت حولي مستعيناً بكشاف هاتفي الجوال، لأجد زوجتي وأولادي جالسين في الظلمة، أجسادهم مبللة بالعرق، وكأنهم استسلموا لحالة من الخمول والإرهاق الشديد، السواد سيد الموقف، فكان الرد قاسياً وبسيطاً:
“انقطعت الكهرباء، البطارية نفذت منذ عشر ساعات وحتى الآن، والحي كله على هذا الحال.

​سألتهم باستغراب: “ألم تشغّلوا لمبة الهواتف لإضاءة المكان؟” أجابوا بأن بطارياتها قد نفذت هي الأخرى، بعد هذا الانقطاع الطويل.

وأنا مازلت غير مستوعب ما يحصل، فاخْتَتَمَتْ أم الأولاد المشهد بتساؤل نبَّهَنِي، إذ قالت :
” يا أبا علي أنسيت أنك خرجت عصراً من البيت والكهرباء مقطوعة منذ ماقبل الظهيرة، “كانت وقتها البطارية لازالت تعمل” وعُدْتَ ليلاً ومازالت مقطوعة؟ “

​في تلك اللحظة، ضرب التناقض القاتل في صميم وعيي، وكأنني استيقظت من حُلُمْ جميل، كيف رأيتُ قبل دقائق قليلة تلك الشوارع المضيئة والمحلات المتلألئة، وكيف أصبحت الآن في بيتي، حيث لا أملك رفاهية الضوء أو الهواء اللطيف!!

​هذه هي الحقيقة المُرَّة التي أرادوا لنا أن نعيشها ونصدقها، وهذا هو الخِدَاع البصري الذي تمارسه الدولة وحكومتها: “إيحاءٌ للعالم الخارجي بأن الأمور بخير، وأننا في أمن وأمان ونعيم دائم، لكن تلك الأضواء الباهرة لم تكن سوى شكليات، مجرد واجهات مصطنعة لا تعكس حقيقة الداخل.”

نعم هذه هي الدولة بعيداً عن التطبيل والتجميل، فبمجرد أن اقتَحَمْتُ “دهاليز الواقع” ودخلت إلى “بواطن” هذا النظام ،حتى اكتشفت أنني انتقلت إلى كوكب آخر؛ عالم مظلم، كأننا نعيش في عالم الغاب حيث البقاء للأقوى والأكثر صبراً على الظُلْمِ والظَلَام.

ف​إلى متى ستستمر حكومتنا وكل مسؤول دون استثناء في هذه “الحرب” المستمرة ضد المواطنين من خلال ملف الخدمات الأساسية؟
و هل هذا عجزٌ حقيقي أم إهمال متعمد؟

و لا تهم الأسباب بقدر ما تهم النتيجة، وهي أن التعب قد أَنهك هذا الشعب، لدرجة أنه لم يعد يحلم بالدولة المثالية التي طالما أنشدها، أو الاستقلال الذي ظل يشدو بزوغ فجره طويلاً.

​فلقد تقلصت أحلام المواطن من تأسيس وطن عظيم إلى مطلب واحد ووحيد، “توفير الخدمات والمعاشات، وضمان لقمة أولاده والستر في الدنيا.”

لم يعد يهمه من يحكمه، ولا حتى إن كان عدواً مُبيناً، طالما أنه سيمنحه هذا الحق المشروع والأساسي.

​إنها مأساة أن يُصبح توفير الكهرباء والماء أملاً بعيد المنال، بعد أن كان حلماً بسيطاً في ظل ماكانت تعرف قديماً بـ “الدولة” ،أمَّا اليوم وبعد أن ضاق به ذرعاً، فإذا لسان حال المواطن يقول:
“ليحكمنا من يحكم، ولينقذنا من ينقذ، فالنور والماء والعيش الكريم هي العملة الوحيدة التي يشتري بها الحاكم اليوم ولاء شعبه الصابر.”

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى