كتاب عدن

ما هي الدولة؟ وما شروط قيامها؟


✍️ العقيد/ محسن ناجي مسعد

عندما نتحدث عن الدولة، فنحن لا نتحدث عن كيانٍ رمزي أو شعارٍ سياسي يمكن التلاعب به أو تأويله بما يتوافق مع أهواء ورغبات البعض، بل عن حقيقة قانونية وسياسية متكاملة الأركان وغير قابلة للعبث أو التأويل. فالدولة، في أبسط تعريفاتها، تقوم على ثلاثة مقومات رئيسية لا غنى لأحدها عن الآخر: الأرض، والشعب، والإرادة السياسية ( السلطة والسيادة ). هذه العناصر الثلاثة هي التي تمنح أي كيان في هذا العالم صفة “الدولة”، ومن دون اكتمالها وعدم توفرها لا يمكن أن نطلق على أي كيان هذا الوصف مهما كانت الشعارات أو الادعاءات التي لا يمكنها أن تحل بديلا عن الثلاثة العناصر التي تقوم عليها الدولة والتي من دونها لا مجال للحديث عن قيامها.

هذا المفهوم لا يختلف عليه أحد، لا دولًا ولا شعوبًا. فهو قاعدة متعارف عليها في الفكر السياسي، ومبدأ راسخ في القانون الدولي الذي يؤكد على أهمية توفر الثلاثة العناصر التي تمثل عنصر حسم في قيام أي دولة ( أرض + شعب + سيادة ).

أما بالنسبة لنا كجنوبيين، فالمؤسف أن هناك من يحاول القفز على هذه الحقيقة التي لا جدال فيها، عبر الترويج لأفكار سياسية مغلوطة لا تمت بصلة لمقومات الدولة التي عرفتها البشرية عبر التاريخ. ومن أبرز تلك الأفكار ما تروج له بعض قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي التي تزعم بقصد أو بدون قصد بوعي أو بدون وعي بأن الجنوب قد انتقل من مرحلة التحرر إلى مرحلة بناء الدولة، دون أن تشرح للناس عن أي دولة يتحدثون ؟ وأين هي هذه الدولة إذا كان الجنوب ما زال بلا هوية سياسية مستقلة ولا سيادة حقيقية تمكنه من إدارة شؤون الدولة التي مازال قيامها في علم الغيب ومن دون أفق واضح ؟.

صحيح أن الأرض موجودة، والشعب موجود، لكنهما وحدهما لا يشكلان عامل حسم في قيام الدولة. فالدولة لا تقوم إلا بوجود سلطة وطنية حرة تمتلك إرادتها السياسية المستقلة، وتمارس سيادتها الكاملة على الأرض والشعب. وهذا الشرط الجوهري لم يتحقق في الجنوب حتى اليوم.

فهل يعتقد قادة المجلس الانتقالي أن شراكتهم في سلطةٍ تحتل الجنوب تمنحهم الحق في الترويج لمثل هذه المغالطات ؟ وهل يمكن لمن يشارك المحتل سلطته أن يدّعي أنه يبني دولة مستقلة؟ إن هذا الخلط المتعمد بين مفهومي التحرر الوطني وبناء الدولة يمثل تضليلًا خطيرًا للرأي العام الجنوبي ومحاولة بائسة لتزييف وعي الناس بأمور ليس لها أصل على أرض الواقع، ومحاولة لتجميل واقع الاحتلال وتبرير وجوده بعبارات سياسية منمقة بعيدة عن العقل والمنطق ولا تستند على حقائق سياسية او قانونية بقدر ما تستند على الرغبات والأهواء والمصالح الضيقة التي تقف خلف هذا الواقع السياسي الراهن الذي لا ينتمي إليه الجنوب ولا يعبر عنه بأي صورة من الصور . هذا الواقع هو في الحقيقة إمتدادا طبيعيا للواقع الذي تشكل بعد احتلال الجنوب عام ١٩٩٤م، واقع احتلالي برغم الشراكة التي أقامها المجلس الأنتقالي مع الشرعية وهي الشراكة التي لم تغير بشيء من هذه الحقيقة التي لا يجب أن تغيب عن بالنا ولا يجب أن نتجاوزها بالشعارات أو بتسويق الأوهام التي لم تعد مقبولة بين أوساط الجنوبيين ،ولم تعد تنطلي على أحد ، فالشعب الجنوبي يدرك جيدا بأن الجنوب مازال محتل وأن قيادات الأنتقالي بمتخلف مستوياتها القيادية تعمل في ظل إرادة الجمهورية اليمنية وتحت علمها وعلم دولة الوحدة التي رفضها شعبنا.

إن القول بأن الجنوب قد أنهى مرحلة التحرر ودخل مرحلة بناء الدولة، بينما ما زال واقع الاحتلال قائمًا، هو استهانة بعقول الناس وإساءة فادحة لجوهر القضية الجنوبية. فكيف نبني دولة في ظل منظومة حكم ما زالت تعمل وفق عقيدة وقوانين وتشريعات نظام الاحتلال اليمني ؟ وكيف يمكن لمؤسسات تحمل هوية الجمهورية اليمنية أن تعبّر عن هوية الجنوب ؟.

إن ما ينبغي على المجلس الانتقالي أن يدركه جيدًا، هو أن إصلاح مؤسسات الاحتلال لا يعني بناء دولة جنوبية، لأن تلك المؤسسات قائمة أصلًا لخدمة منظومة الاحتلال ومصالحها، وليست لخدمة الشعب الجنوبي. فالدولة الجنوبية الحقيقية لن تقوم إلا بعد تحرير الأرض واستعادة السيادة، لتُبنى مؤسساتها وقوانينها من جديد وفق عقيدة سياسية جنوبية ووفق إرادة الجنوبيين وحدهم، وبما يحقق مصالحهم وتطلعاتهم الوطنية التي ليس لها موقع من إعراب كافة الأنظمة والقوانين والتشريعات التي سنها المحتل والتي تنظم عمل كافة مؤسساته وهيئاته الخاضعة لإرادته التي لا تعبئ إلا لمصالحه ومصلحة ديمومته واستمرار بقائه في الجنوب.

لقد كانت شراكة الانتقالي مع ما يسمى بـ “الشرعية” بموجب اتفاق الرياض خطأً استراتيجيًا كبيرًا، أعاد الشرعية إلى عدن دون أن تقدم أي التزام تجاه القضية الجنوبية، بل كرست وجودها كسلطة أمر واقع على الجنوب، وعطلت مسار القضية، وأدخلتها في متاهة من الغموض والضبابية.

إن الجنوب اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم، ولن يتمكن من العبور إلى المستقبل إلا عبر تحرير الأرض أولًا، واستعادة الهوية والسيادة ثانيًا، ثم البدء في بناء الدولة الجنوبية المستقلة على أسس جديدة تستند إلى إرادة الشعب الجنوبي الحرة.

وأي محاولة للالتفاف على هذه الحقائق أو القفز فوقها، ليست سوى تزييف للوعي وخداع للناس، ومشاركة غير مباشرة في إطالة أمد الاحتلال الذي ما زال يمارس كل أشكال القهر والتنكيل بأبناء الجنوب الذين تعمقت معاناتهم وزادة حدتها وأرتفعت وتيرتها بصورة غير مسبوقة لم يعهدها شعبنا طوال تاريخه ولم يرى مثيل لها على مدى عقود من الزمن.

إن الطريق إلى الدولة الجنوبية واضح لا لبس فيه: التحرير أولًا، ثم البناء. ومن دون ذلك، ستبقى كل الشعارات عن “بناء الدولة” مجرد وهمٍ سياسي يُسوّق للناس ويشرعن لبقاء الشراكة، بينما تبقى أرض الجنوب تحت سلطة الغير، بلا سيادة ولا هوية، أن الحديث عن البناء المؤسسي في ظل الاحتلال هو كمن ( يضع العربة قبل الحصان ) وهو في الحقيقة هروب إلى الأمام وعجز واضح عن فهم طبيعة المرحلة الراهنة التي مازال فيها الجنوب يرزح تحت نير الاحتلال وفي انتظار حدوث معجزة تعيد له اعتباره ويستعيد من خلالها هويته المفقودة التي يستدعي تحقيقها المزيد من النضال والتضحيات خلال المرحلة القادمة.

عدن ٣٠ اكتوبر ٢٠٢٥م

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى