الحضور السعودي المصري في إقليم البحر الأحمر لترتيب التوازنات

د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب:
تمثّل حروب الصومال، وإريتريا – إثيوبيا، واليمن، وغزة، والسودان، إلى جانب بروز التنظيمات الإرهابية في أفريقيا، مع انشقاق أحد أجنحة حركة الشباب ومبايعته لتنظيم داعش، تهديدات متصاعدة تؤثر بعمق على الأمن والتنمية في إقليم البحر الأحمر. فقد أصبحت هذه التهديدات، إلى جانب الحروب وتصاعد الحرب بالوكالة، من أهم العوامل المؤثرة في استقرار المنطقة. ولا ينفصل إقليم البحر الأحمر عن تصاعد الأزمات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط، حيث يشهد تنافسًا متناميًا بين القوى الدولية لإعادة تشكيل النظام العالمي، تسعى فيه هذه القوى إلى اقتسام الفرص والهيمنة، خصوصًا مع ارتفاع أهمية الإقليم كجزء من هذا التنافس الدولي المحموم. وقد أدى ذلك إلى خضوع الدول المطلة على البحر الأحمر لمحاولات متكررة للدمج ضمن أهداف خارجية، ما ساهم في زعزعة استقرارها.
كما تُعد منطقة القرن الأفريقي جزءًا لا يتجزأ من أهمية إقليم البحر الأحمر، حيث سعت دول الشرق الأوسط إلى تأكيد وجودها في القرن الأفريقي بشكل غير مسبوق منذ قرن من الزمن. وقد تحوّل القرن الأفريقي إلى مركز للتنافس، ليس فقط الدولي، بل أيضًا لتصفية الحسابات الإقليمية، عبر وكلاء محليين وإنشاء قواعد عسكرية، حتى بات مركزًا رئيسيًا لعدم الاستقرار الإقليمي والدولي.
هذا الممر البحري الحيوي يلعب دورًا محوريًا في نقل التجارة، وعلى رأسها الطاقة والمواد الخام والصناعات، حيث تمر عبره نحو 60 % من الطاقة المتجهة إلى الاتحاد الأوروبي. وتنشغل الصين بحرية الملاحة في البحر الأحمر، إذ تُعد أكبر سوق لصادرات الاتحاد الأوروبي، وأكبر مصدر لوارداته. ووفقًا للرؤية الصينية، فإن طريق الحرير البحري هو جزء من مبادرة الحزام والطريق، ما دفع الصين إلى إنشاء أول قاعدة عسكرية لها في جيبوتي، إلى جانب استثمارات واسعة في بناء الموانئ والمستودعات. وقد أثار هذا الوجود قلق الولايات المتحدة، نظرًا لقرب القاعدة الصينية من القاعدة الأمريكية في جيبوتي، حيث ترى واشنطن أن هذا التوسع قد يُقلل من نفوذها في الإقليم. بينما تهدف الصين من إقامة هذه القاعدة إلى حماية مصالحها التجارية في القرن الأفريقي.
الحروب والصراعات في الإقليم، كالحرب في غزة والسودان، وتهديد الحوثيين لأمن ممرات البحر الأحمر، دفعت السعودية إلى رفض المشاركة في عملية “حارس الازدهار”، حتى تتوقف حرب غزة.
لعبت المملكة العربية السعودية دورًا مهمًا في الوساطة بين إثيوبيا وإريتريا، ما أفضى إلى توقيع اتفاق سلام بينهما في جدة عام 2018. كما أقامت السعودية علاقات مع الصومال، خاصة مع منطقة أرض الصومال ذات الحكم الذاتي، وأسست مجلس دول البحر الأحمر وخليج عدن، وعزّزت تفعيل مبادرة الدول المتشاطئة الثماني على سواحل البحر الأحمر: السعودية، مصر، الأردن، السودان، اليمن، إريتريا، الصومال، وجيبوتي.
وقد وقّعت السعودية اتفاقية امتياز لتشغيل ميناء تاجوراء الجيبوتي لمدة 30 عامًا، مع شركة “محطة بوابة البحر الأحمر” السعودية، لتشغيل وتطوير الميناء في منطقة القرن الأفريقي. تم توقيع الاتفاق في جدة بتاريخ 27 أكتوبر 2025، ويُسهم المشروع في تنشيط حركة التجارة الإثيوبية عبر الميناء، بما في ذلك صادرات البوتاس والأسمدة ومواد البناء، كما يُرسّخ مكانة جيبوتي كمركز بحري ولوجستي محوري في القرن الأفريقي والبحر الأحمر. يقع الميناء على الساحل الشمالي لخليج تاجوراء، ويطل مباشرة على البحر الأحمر بالقرب من مضيق باب المندب، ويبعد نحو 35 كيلومترًا شمال العاصمة جيبوتي، ويُعد من أقرب الموانئ إلى الحدود الإثيوبية، ما يجعله نقطة استراتيجية لتصدير واستيراد البضائع الإثيوبية. وقد صُمّم الميناء ليكون بوابة تجارية لإثيوبيا نحو البحر، في إطار سعي السعودية لتقليص التوترات في المنطقة.
خصوصًا وأن إثيوبيا تُصرّ على الحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر، حيث اعتبر رئيس وزرائها، أبي أحمد، أن حصول بلاده على ميناء بحري أصبح أمرًا لا مفر منه، واصفًا ذلك بأنه مسألة قانونية وتاريخية وجغرافية واقتصادية، يجب التعامل معها بهدوء، دون استبعاد احتمالات المواجهة. في المقابل، ترى مصر أن أمن البحر الأحمر ملف سيادي يخص الدول المطلة عليه فقط، مما يُنذر بأزمة جديدة بين القاهرة وأديس أبابا، تُضاف إلى معضلة سد النهضة.
فقدت إثيوبيا منفذها البحري الوحيد عبر ميناءي عصب ومصوع، بعد استقلال إريتريا عام 1993، ما جعلها دولة حبيسة بلا سواحل. وتعتمد إثيوبيا على ميناء جيبوتي في 90 % من تجارتها الخارجية، لكنها ترى في هذا الاعتماد مصدر قلق سياسي واستراتيجي متزايد. لذلك، تعتبر الوصول إلى البحر مسألة وجودية، تستند إلى اتفاقيات أقرتها الأمم المتحدة عام 1994، تتيح للدول الحبيسة حق الاستخدام العادل للمنافذ البحرية. كما تستند إلى الحق التاريخي في ميناء عصب، الذي كان جزءًا من إثيوبيا بعد اتحادها مع إريتريا عام 1952، ودمجهما عام 1962، حيث أصبح ميناء عصب بوابة رئيسية لدخول الأجزاء الجنوبية والوسطى من البلاد، وتوسّع بدعم من الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا في عهد هيلا سيلاسي الأول.
تُقيم السعودية علاقات دبلوماسية وثيقة مع إثيوبيا منذ عام 1949، ويمكن إرجاع الجذور التاريخية لتفاعلاتهما إلى القرن السابع، حين واجه المسلمون الأوائل الاضطهاد في مكة، فلجأ بعضهم إلى مملكة أكسوم، وهي إثيوبيا الحالية.
تُعد الزيارة الرسمية لرئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، الفريق أحمد خليفة، إلى السعودية في 31 أكتوبر 2025، محطة مهمة في بحث التعاون والتنسيق العسكري، في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة. فالسعودية ومصر تُشكّلان قطبي العلاقات والتفاعلات في النظام الإقليمي العربي، ويقع عليهما العبء الأكبر في مواجهة التحديات التي تضرب المنطقة، وبشكل خاص ما يدور في السودان. وقد سبق أن اتفقت الدولتان، مع الدول المتشاطئة للبحر الأحمر، على تشكيل قوة مشتركة، يكون مركز قيادتها الرئيسي في جدة، وذلك في اجتماع عُقد بالرياض بتاريخ 22 ديسمبر 2018. تهدف هذه القوة إلى انتشال البحر الأحمر من دوامة الحروب، وصراع النفوذ، والتواجد الأجنبي، ومرتع القراصنة، وتحويله إلى جسر للتواصل بين الحضارات، وتأسيس قوة إقليمية جديدة لمواجهة التحديات الراهنة والمتصاعدة، عبر التعاون والتكامل بين الدول العربية، والتنسيق مع الدول الأفريقية المتشاطئة للبحر الأحمر.
وقد زادت أهمية البحر الأحمر بعد ربطه بالبحر المتوسط عبر قناة السويس عام 1869، ما عزّز أهميته الإستراتيجية للتجارة الدولية، إذ وفّر وقت الرحلات وتكلفتها. يبلغ طول البحر الأحمر 2250 كيلومترًا، وأقصى عرض له 398 كيلومترًا، وأقل عرض 26 كيلومترًا عند مضيق باب المندب، ومتوسط عمقه 490 مترًا.
بالطبع، الحروب والصراعات في الإقليم، كالحرب في غزة والسودان، وتهديد الحوثيين لأمن ممرات البحر الأحمر، دفعت السعودية إلى رفض المشاركة في عملية “حارس الازدهار”، حتى تتوقف حرب غزة.
ورغم ذلك، هناك تحالف بحري بين السعودية ومصر، تجسّد في التدريب المشترك “السهم الثاقب 2024″، حيث يتجه البلدان إلى إنشاء قوة بحرية مشتركة في البحر الأحمر، لتأمين حرية الملاحة، بما يُمكن أن يُغيّر موازين القوى في الإقليم، خصوصًا في مواجهة تهديدات الحوثيين لممرات البحر الأحمر، بعد وقف حرب غزة التي تُستخدم ذريعة. هذه التفاهمات بين البلدين تجاوزت السياسة والاقتصاد، وهي تقارب استراتيجي حقيقي، وقد سبقت مصر بإنشاء قاعدة “برنيس” العسكرية على البحر الأحمر عام 2020، قبل اندلاع حرب “طوفان الأقصى”.
انطلقت أيضا تدريبات النجم الساطع 2025 بين الولايات المتحدة ومصر وأكثر من 40 دولة بمشاركة 43 دولة و8 آلاف مقاتل، في نسختها التاسعة عشرة لتعزيز البنى الدفاعية الإقليمية من خلال جمع قوات مشاركة من السعودية والأردن وقطر في مناورات تستضيفها القوات المصرية والأمريكية من أجل بناء قدرات جماعية وتعزيز التعاون الأمني في الشرق الأوسط، وسبق أن نظمت السعودية الرمال الحمراء في 2024 التي ركزت على مواجهة الطائرات المسيرة، قطر نظمت النسر الحاسم 2025 التي ركزت على أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل، ونظم الأردن آي إم إكس 2025 التي ركز تعلى الأمن البحري ، من أجل تعزيز الردع. العرب



