إعادة تموضع يعيد لسوريا بعضًا من شرعيتها الدولية

علي قاسم
انضمام سوريا إلى التحالف الدولي يُعيد تعريف موقعها في النظام الإقليمي لكنه لا يضمن الاستقرار دون إصلاحات داخلية حقيقية.
في خطوة مفاجئة حملت دلالات استراتيجية عميقة، أعلنت الحكومة السورية انضمامها رسميًا إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وذلك قبل أيام من زيارة مرتقبة للرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن في شهر نوفمبر الجاري. هذا الإعلان، الذي جاء بعد أكثر من عقد من القطيعة بين دمشق والعواصم الغربية، يفتح الباب أمام إعادة تعريف موقع سوريا في النظام الإقليمي والدولي، ويطرح أسئلة جوهرية حول دوافع هذا التحول وتداعياته المحتملة على الداخل السوري وعلى توازنات المنطقة.
منذ تأسيس التحالف الدولي في عام 2014، بقيت سوريا خارج مظلته السياسية، رغم أن أراضيها كانت من أكثر الساحات دموية في الحرب ضد داعش. أكثر من 100,000 قتيل سقطوا في المعارك ضد التنظيم داخل سوريا، بحسب تقديرات مراكز الأبحاث الدولية، فيما أسهم التحالف في استعادة نحو 80% من الأراضي التي كان يسيطر عليها التنظيم، خاصة في الرقة ودير الزور. ومع ذلك، بقيت دمشق معزولة، تخوض حربها الخاصة، وتواجه عقوبات دولية خانقة، وتُستثنى من أي تعاون استخباراتي أو عسكري مع القوى الغربية.
اليوم، يبدو أن سوريا تسعى إلى قلب هذه المعادلة. فبعد سقوط نظام بشار الأسد وتشكيل حكومة انتقالية جديدة، تبرز الحاجة إلى إعادة تموضع سياسي وأمني يعيد لسوريا بعضًا من شرعيتها الدولية، ويفتح الباب أمام شراكات جديدة في ملفات الأمن، الاقتصاد، وإعادة الإعمار. لكن هل يمثل هذا الانضمام تحولًا استراتيجيًا حقيقيًا؟ أم أنه مجرد خطوة تكتيكية تهدف إلى رفع العزلة دون تغيير جوهري في بنية القرار السوري؟ وفقًا لتقارير إعلامية عربية ودولية، فإن الزيارة المرتقبة للرئيس الشرع إلى واشنطن في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 ستكون الأولى لرئيس سوري منذ عقود، وتهدف إلى توقيع اتفاق رسمي للانضمام، مع بحث رفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.
وتتوزع دوافع الانضمام بين الحاجة واقتناص الفرصة. فمن منظور داخلي، يبدو أن الحكومة السورية الجديدة تدرك أن ملف إعادة الإعمار لا يمكن أن يتحرك دون انفتاح على المؤسسات الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد. الانضمام إلى التحالف الدولي يمنح دمشق فرصة لإعادة بناء الثقة مع الغرب، وفتح قنوات تمويل ومساعدات مشروطة بالتعاون الأمني. كما أن التهديدات الأمنية لا تزال قائمة، إذ تشير تقارير استخباراتية إلى نشاط خلايا نائمة لداعش في البادية السورية، وفي مناطق التماس مع العراق. التعاون مع التحالف يمنح سوريا أدوات استخباراتية وتقنية يصعب الوصول إليها منفردة، كما أكد وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، في منتدى حوار المنامة، حيث أشار إلى أن ملف إعادة الإعمار سيكون محور الزيارة.
لكن الدافع الأهم قد يكون سياسيًا. فزيارة الرئيس الشرع إلى واشنطن ستكون الأولى لرئيس سوري إلى الولايات المتحدة منذ زيارة بشار الأسد الأخيرة في عام 2000، وتحمل رمزية كبيرة، وتُعد مؤشرًا على رغبة دمشق في إعادة تعريف علاقتها مع الولايات المتحدة، وربما التمهيد لمفاوضات أوسع تشمل ملفات الحدود، اللاجئين، والعقوبات. في هذا السياق، يبدو الانضمام إلى التحالف خطوة محسوبة تهدف إلى كسر الجليد دون تقديم تنازلات جوهرية في الملفات الحساسة، كما أفادت تقارير أكدت أن الزيارة ستشمل مناقشات حول رفع العقوبات مقابل تعزيز التعاون الأمني.
انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لا يُقرأ فقط في سياق العلاقات الثنائية مع واشنطن، بل ينعكس مباشرة على توازنات المنطقة. فإسرائيل، التي خاضت مواجهات غير مباشرة مع دمشق عبر الجبهة الجنوبية، قد ترى في هذه الخطوة فرصة لتأسيس تفاهمات أمنية جديدة، خاصة في ملف الجولان والحدود الشمالية. وتشير تسريبات دبلوماسية إلى استعداد واشنطن لرعاية جولة خامسة من المفاوضات المباشرة بين سوريا وإسرائيل، وهو ما قد يُحدث تحولًا جذريًا في طبيعة الصراع التاريخي بين الطرفين.
أما تركيا، فتنظر إلى التحالف الدولي من زاوية مختلفة، خاصة في ظل التعاون الأميركي–الكردي في شمال سوريا. انضمام دمشق إلى التحالف قد يُعزز من موقع القوات الكردية، ويُضعف النفوذ التركي في المناطق الحدودية. هذا قد يدفع أنقرة إلى إعادة تقييم إستراتيجيتها في سوريا، وربما إلى تصعيد دبلوماسي أو ميداني إذا شعرت أن مصالحها مهددة، كما يحذر محللون في مركز كارنيغي، الذي أشار إلى أن هذا التحول قد يعيد إشعال التوترات الحدودية مع تركيا.
في المقابل، يُثير هذا التحول قلقًا في طهران وموسكو، الحليفين التقليديين لدمشق. فدخول سوريا في تحالف تقوده واشنطن قد يُضعف من نفوذ إيران العسكري والسياسي، ويُربك حسابات روسيا في ملف الطاقة والموانئ. هل نشهد إعادة تموضع إقليمي؟ أم تصعيدًا خفيًا بين القوى المتنافسة على الأرض السورية؟ تقارير عديدة صدرت مؤخرًا تشير إلى أن الانضمام مرتبط بجهود أميركية لمعالجة ملف “قسد”، مما قد يؤدي إلى دمجها في الجيش السوري أو تهميشها، في خطوة تضعف الإدارة الكردية وتعزز الوحدة السورية.
بين إعادة الإعمار والتدخلات الجديدة، يُمكن لانضمام سوريا إلى التحالف أن يُسرّع من وتيرة إعادة الإعمار، خاصة إذا اقترن برفع تدريجي للعقوبات وفتح قنوات التمويل الدولية. لكن هذا الانفتاح يحمل في طياته مخاطر التدخلات الأجنبية، سواء عبر شروط سياسية تُفرض على الحكومة السورية، أو عبر إعادة تشكيل البنية الأمنية بما يتماشى مع مصالح القوى الكبرى. في هذا السياق، يُحذّر بعض الخبراء من أن التحالف قد يتحول إلى أداة لإعادة هندسة الدولة السورية بدلًا من دعمها. مركز كارنيغي، في تحليله الأخير، أشار إلى أن انضمام سوريا إلى التحالف لا يضمن الاستقرار، بل قد يُعيد إنتاج التبعية إذا لم يُقترن بإصلاحات داخلية حقيقية تشمل العدالة الانتقالية، إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وتأسيس عقد اجتماعي جديد.
انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد داعش يُعد خطوة جريئة، تحمل في طياتها فرصًا حقيقية للخروج من العزلة، وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة. لكنها في الوقت ذاته تُثير أسئلة جوهرية حول طبيعة هذا الانفتاح، وحدوده، ومآلاته. هل تُعيد سوريا تعريف موقعها في النظام الدولي؟ أم تُستدرج إلى مرحلة جديدة من التبعية والتدخلات؟ النجاح في هذه المرحلة لا يعتمد فقط على التحالفات الخارجية، بل على القدرة السورية على الإصلاح الداخلي، وبناء دولة مدنية تعددية تُعيد الاعتبار للمواطنة، وتُحصّن البلاد من الانقسامات التي مزقتها لعقد كامل.
المستقبل السوري يُصاغ الآن، في العواصم الكبرى، بانتظار أن تعاد صياغته في شوارع المدن السورية التي تنتظر إعادة البناء، وإعادة بناء الثقة. التحالف الدولي قد يكون بوابة، لكنه ليس ضمانة.العرب



