كتاب عدن

أولويات الانتقالي في المرحلة الراهنة: السلطة أولًا أم القضية؟*


————————————————————–
✍️ العقيد / محسن ناجي مسعد

لسنا من هواة توجيه الاتهامات جزافًا، ولا من الذين يشككون في وطنية أحد، أفرادًا كانوا أم جماعات أو تنظيمات، فذلك ليس من شيمنا ولا من قيم الرجولة التي تحتم علينا أن نحكم على الآخرين بأفعالهم لا بأقوالهم، وبما يُترجم على أرض الواقع لا بما يُقال في وسائل الإعلام أو على شبكات التواصل الأجتماعي.

فالأفعال هي المعيار الحقيقي الذي تبني عليها مواقفنا وأرائنا ويُقاس من خلالها صدق المواقف، وهي وحدها التي تُمكّننا من إصدار أحكام منصفة على القضايا والأحداث التي تشغل الرأي العام سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا.

«المجلس الانتقالي بين الدور والموقع»

حين نناقش أولويات المجلس الانتقالي الجنوبي في هذه المرحلة، فذلك لا يعني الانتقاص من مكانته أو التقليل من دوره في المشهد السياسي الجنوبي أو نبحث عن خصومة معه أو الإسائة له مطلقا، بل نهدف إلى مقاربة موضوعية تُعيد قراءة مواقفه في ضوء الواقع الذي نعيشه حاليا وفي ضوء التطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة المحلية والإقليمية والدولية.

فالمتأمل في سلوك المجلس يرى أنه وبكل تجرد أعاد ترتيب أولوياته وفق ثلاثة محددات رئيسية أصبحت تحدد مسار عمله الحالي:
(البقاء في السلطة – تصويب مسار الشراكة – الاصطفاف مع الشرعية في مواجهة الحوثيين).
هذه الأولويات – رغم منطقها الظاهري – أدت عمليًا إلى إزاحة القضية الجنوبية من مركزها الطبيعي، لتتحول من محور النضال الجنوبي إلى ملف مؤجل، يُتعامل معه في الهامش لا في صدارة القرار السياسي.
ويزداد هذا التهميش وضوحًا مع اقتراب تسوية سياسية يجري الإعداد لها بين طرفي الصراع الرئيسيين في اليمن (الحوثيين والشرعية)، وهي تسوية تتجاهل الجنوب تمامًا. وتستبعد قضيته من أي نقاش جاد أو ضمانات واضحة في خارطة الطريق الأممية المدعومة إقليميًا بغض النظر عن التفاهمات والاتفاقات التي يتحدث عنها الأنتقالي والتي لا تمنح الجنوب حقوقه بصورة واضحة.

إن استبعاد الجنوب من معادلة الحل لا يعني فقط تهميش قضية وطنية محورية، بل يمثل تهديدًا حقيقيًا للاستقرار الإقليمي، إذ لا يمكن لأي تسوية أن تنجح دون معالجة عادلة ومنصفة للقضية الجنوبية التي تبقى مفتاح الحل كافة الأزمات في اليمن والمنطقة بأكملها.

أولاً : السلطة.. من وسيلة نضال إلى غاية بحد ذاتها.
لم تكن السلطة يومًا هدفًا للحركات التحررية، بل وسيلة لخدمة القضية وتمكين الشعب من إدارة شؤونه.
لكن الانتقالي، بعد دخوله حكومة “المناصفة” التي تحولت فعليًا إلى حكومة محاصصة، وجد نفسه غارقًا في صراعات النفوذ والمناصب أكثر من انشغاله بإدارة معركة التحرير واستعادة الدولة.
تحولت السلطة من أداة ضغط إلى قيد ثقيل كبّل القرار السياسي للمجلس وأخضعه لاعتبارات إقليمية ودولية، فانتقل من موقع الفاعل المستقل في الجنوب إلى موقع الشريك المنضبط في معادلة (صنعاء – الرياض – عدن).
هذا التحول أفقد المجلس قدرته على المناورة وأضعف حضوره كحاملٍ سياسي لقضية التحرير، ليصبح بقاؤه في السلطة غاية تسبق كل غاية، حتى وإن كانت على حساب المشروع الوطني الجنوبي.

ثانياً : تصويب مسار الشراكة.. أم تصويب مسار القضية؟
يرفع المجلس الانتقالي شعار “تصويب مسار الشراكة مع الشرعية”، لكن الإشكال ليس في آليات الشراكة، بل في جوهرها ذاته.
فالشراكة مع منظومة لا تعترف أصلًا بحق الجنوب في تقرير مصيره أو إقامة دولته المستقلة، لا يمكن أن تُثمر عن “تصويب” حقيقي.
الشرعية، كما أثبتت التجارب، ما زالت تحتكر القرار السياسي والعسكري والاقتصادي، وتعيد إنتاج أدوات الإقصاء القديمة، مستهدفة من خلال ذلك إضعاف المشروع الوطني الجنوبي وتطويعه.

لقد تحولت هذه الشراكة إلى أداة احتواء ناعمة، تُستخدم لإعادة إدماج الجنوب قسرًا في منظومة الدولة المركزية التي فُرضت عليه منذ عام 1990م، مع بقاء المجلس الانتقالي مجرد شريك إداري لا يملك حق الفيتو ولا حتى ضمانات واضحة لحماية القضية.
إن تصحيح مسار الشراكة داخل منظومة ترفض أصلًا الاعتراف بحق الجنوبيين في التحرر، ليس سوى وهم سياسي، وتجربة تؤكد الوقائع فشلها المتكرر وهي لا تختلف عن الشراكة التي أقامها الجنوبيين في ٢٢مايو ١٩٩٠م والتي قادة إلى حرب نتج عنها احتلال الجنوب في ١٩٩٤م

ثالثاً : الاصطفاف مع الشرعية ضد الحوثي.. موقف وطني أم فخ سياسي؟
لا جدال في أن الحوثي يمثل خطرًا وجوديًا على الجنوب بمشروعه الطائفي التوسعي وعدائه التاريخي للقضية الجنوبية.
لكن المفارقة أن الشرعية هي الأخرى تمثل خطرًا لا يقل شأنًا، فهي تتمسك بمشروع “الوحدة القسرية” وترفض الاعتراف بعدالة قضية الجنوب وحقه في استعادة دولته.
إن تموضع المجلس الانتقالي إلى جانب الشرعية في المعركة ضد الحوثيين وضعه في فخٍ مزدوج:
فهو يقاتل خصمه السياسي إلى جانب خصمٍ آخر لا يقل عداوة، ويُستنزف في معارك تخدم أهداف الآخرين أكثر مما تخدم مشروع التحرير الجنوبي.
لقد استُخدم الجنوب كقوة عسكرية ضاربة في الحرب، دون أن تُقابل تضحياته بأي مكاسب سياسية تُذكر، بل جرى تجميد قضيته وتحويلها إلى ورقة تفاوض ثانوية في انتظار “الظرف المناسب” الذي يقرره الأخرين .

النتيجة: الجنوب خارج معادلة الحل
نتيجة هذه الأولويات الثلاث، تحوّل المجلس الانتقالي من حاملٍ سياسي لمشروع التحرير إلى شريك في إدارة أزمات دولة الوحدة نفسها.
لم يعد الجنوب يفرض شروط الحل، بل ينتظر ما يُقرره الآخرون بشأنه، وهو انحراف خطير عن المسار الذي انطلق منه الانتقالي عقب أحداث أغسطس 2019م التي منحت الجنوب فرصة تاريخية لاستعادة زمام المبادرة والسير قدما نحو استكمال باقي إستحقاقات ومتطلبات قيام الدولة الجنوبية.
لكن تلك الفرصة ضاعت، حين جرى توظيف نصر القوات الجنوبية في عدن لصالح عودة “الشرعية” التي أعادت معها أدوات النفوذ الشمالي من بوابة “الشراكة” التي ما كان ينبغي أن تقوم بتلك الصورة الفجة، فكانت النتيجة أن خسر الجنوب ما كسبه ميدانيًا على الأرض.

ختاما: مراجعة لا بد منها
إن اللحظة الراهنة تفرض على المجلس الانتقالي وقفة مراجعة شجاعة، يعيد فيها ترتيب أولوياته وفق منطلقاته الأولى :
تحرير الأرض، واستعادة الدولة، وتمثيل الإرادة الشعبية الجنوبية المستقلة.
فالقضية الجنوبية لا تُدار من الخارج، ولا تُختزل في مكاتب السياسة والفنادق، بل تُصنع على أرض الجنوب وبإرادة أبنائه الأحرار.
ولا تُحل ضمن مشاريع الآخرين، بل عبر مشروع وطني خالص يؤمن بأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن كرامة الشعوب لا تتحقق إلا بإرادتها الحرة وثباتها على مبادئها مهما كانت التحديات.

عدن – 13 نوفمبر 2025م

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى