“رغوة” مسرحية يمنية بطلتها امرأة في غرفة تقاوم غياب الخشبات

باريس – أصدرت دار فكرة كوم للنشر والتوزيع بالجزائر نصا مسرحيا جديدا للكاتب والمخرج والفنان التشكيلي اليمني حميد عقبي بعنوان “رغوة”، في طبعة أنيقة تعيد تأكيد حضور هذا الكاتب الذي لا يتخلى عن المسرح، رغم موته شبه الكامل في اليمن، ورغم تآكل المشهد المسرحي العربي الذي بات يكتفي بدعوة بعض الأسماء اليمنية إلى المهرجانات دون أن يقرأ لهم نصا واحدا أو يشهد لهم عملاً جديدًا.
في هذه الهوة الواسعة بين الضجيج الاحتفالي وانعدام الإنتاج الحقيقي، يواصل عقبي تقديم نصوص مسرحية تبنى بوعي بصري وسينمائي، وتكتب بصدق يمني متجذر في الذاكرة والجرح والبحث عن الخلاص.
امرأة في غرفة مغلقة في “رغوة”، كما يُقدّم النص على الغلاف الخلفي للكتاب، نجد امرأة شابة محاصرة في مكان مغلق أشبه بغرفة غسيل، مكان صغير ضيق محايد، لكنه يتحول تدريجيًا إلى مساحة اعتراف أو غرفة عذاب، ثم بيت ذاكرة تتداخل فيه الطفولة والأنوثة والصدمة.
ليست غرفة الغسيل مجرد ديكور، بل هي استعارة عميقة للغسل الداخلي، للتطهر المستحيل، وللمحاولة المستمرة لفهم الألم بينما تتكرر الحركة ذاتها غسل الملابس، اللعب بالرغوة، عصر الماء كما لو أن الجسد يكتب تجربته بيديه.
الشخصية لا تتحدث فقط، إنها تفكك نفسها عبر الحركة؛ الرغوة، الحبل، الشرشف… كلها أدوات تتجاوز وظيفتها المادية لتصبح رموزاً لطبقات القمع التي عاشتها المرأة اليمنية.
في لحظة تتحول الرغوة إلى نور، وفي أخرى تتحول إلى ركام وإلى ما يشبه غبارا أبيض يخفي جروحًا سوداء. الحبل يتبدل بين لعبة طفولية، وأداة عنف، ورمز فاضح للأبوية. أما الشرشف فيتحول مرة إلى كفن، ومرة إلى وجه رجل، ومرة إلى جسد طفل مفقود، ومرة إلى صفحة بيضاء تنتظر كتابة جديدة.
صدى وطن ممزق
قوة النص لا تأتي من الحدث الدرامي بقدر ما تأتي من الصوت الداخلي. المرأة في “رغوة” لا تمثل نفسها فقط إنها تمثل الجسد اليمني بأكمله، الجسد الذي غسل كثيرًا بالدموع والدم، لكنه لا يزال يبحث عن معنى الحياة. يتكرر في النص حضور ذكريات الأم، المدرسة، الزواج القسري، الشرف، النظام الأبوي، والخوف من الجسد. هذه العناصر ليست محلية فقط، بل تقدم بلغة تصلح لأي مسرح عالمي؛ لغة تمزج السرد بالرقص والكلمة بالإيماءة، والواقع بالهذيان.
استعارة الجسد والوطن
في نهاية المسرحية، حين تغوص المرأة داخل برميل مليء بالرغوة وتختفي، لا يبدو المشهد نهاية بقدر ما يبدو غرقا في ذاكرة جماعية، أو محاولة للعودة إلى رحم الأرض، أو إعلانا عن طقس ولادة جديدة. هنا، يمسك عقبي بخيط حساس بين السوداوية والأمل، بين الاختفاء والتجدد، بين الموت والاحتمال.
وتأتي “رغوة” في سياق واسع من انقطاع المسرح اليمني عن الكتابة والنشر والإنتاج. فمعظم الأسماء اليمنية التي تظهر في المهرجانات العربية والبرامج الثقافية للقنوات الفضائية العربية لا تملك نصوصاً جديدة، وبعضها كما يشير عقبي في مناسبات عديدة لم يكتب نصا واحدا منذ سنوات طويلة، وربما لم يكتب أي نص على الإطلاق، رغم حضورها في الندوات والتظاهرات المسرحية. المشهد اليمني فارغ: لا عروض، لا نصوص، لا دراسات ولا برامج حقيقية لإحياء الفن المسرحي.
الهيئات العربية المعنية بالمسرح وفق ما يلمح إليه عقبي عبر سنوات من العمل، باتت تتعامل مع اليمن بمنطق المجاملة أو الاستلاب الثقافي: دعوة بعض الوجوه لحضور مهرجانات، التقاط الصور، ثم العودة إلى الظل دون أي متابعة كتابة أو دعم إنتاج أو رعاية مشروع مسرحي حقيقي. وهكذا يبقى المسرح اليمني بلا حضور، بلا نصوص، وبلا رؤية مستقبلية، وفق رأيه.
ورغم كل هذا، يواصل حميد عقبي كتابة المسرح كنوع من الإنقاذ الروحي. بالنسبة إليه، المسرح ليس خشبة فقط، بل نافذة تأملية تتيح للكاتب أن يعيد تشكيل العالم، وأن يمنح صوته لأرواح صامتة. كل نص عنده، ومنها “رغوة”، يحمل بصمة الحرب اليمنية، الأرض اليمنية الحزينة والإنسان اليمني الذي لا يزال يقاوم رغم الانهيار العام.
بصدور مسرحية “رغوة”، يثبت عقبي أن المسرح يمكن أن يُكتب حتى حين لا يُمثل، ويمكن أن يعيش حتى لو ماتت الخشبة. فالمسرح في النهاية ليس مؤسسة، بل فعل مقاومة كما يقول.



