الراتب المتأخر.. مخالفة قانونية وإخلال جسيم بالالتزامات الوظيفية!!

القاضي أنيس صالح جمعان – عضو نيابة النقض و الإقرار في المحكمة العليا
عندما يكون الراتب طوقاً للعبودية
الراتب، في الأصل، هو الأجر العادل الذي يتقاضاه العامل مقابل جهده، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص. وهو يفترض أن يكون وسيلة لحياة كريمة، لا مجرد أداة للبقاء.
الراتب، في جوهره، ليس مجرد مبلغ مالي، بل هو حق قانوني ثابت، وضمان اقتصادي، وأداة استقرار اجتماعي، ومقوم أخلاقي وإنساني. وهو يفترض أن يكون المقابل العادل لجهد الإنسان، ووسيلته لحياة كريمة تحفظ كرامته وتؤمّن له الحد الأدنى من الأمان.
غير أَنَّ الواقع العملي في اليمن حوّل الراتب في كثير من الأحيان إلى طوقٍ للعبودية الحديثة؛ إذ لم يعد منتظماً، ولا كافياً، ولا حتى مُتاحاً في وقته ولا حتى معلوم الموعد.
يشهد تأخر صرف الرواتب لمدد تمتد إلى أشهر، إشكالية قانونية خطيرة تتجاوز توصيفها كأزمة مالية أو خلل إداري، لتُشكّل في حقيقتها إخلالاً جسيماً بالالتزامات القانونية المترتبة على جهة العمل.
ففي بلدٍ يُصرف فيه الراتب بعد أشهر من التأخير، لا يعود الحديث عن تدنّي الأجر وحده كافياً، بل عن انعدام الأجر زمناً وقيمة.
فالراتب الذي يُصرف بعد أشهر من الانتظار لا يُعد أجراً بالمعنى القانوني، بل يتحوّل إلى دين مؤجَّل تُعلّق عليه حياة الموظف وأسرته، ويُفرَّغ معه مفهوم العمل من قيمته القانونية والإنسانية.
والراتب الذي يتأخر عن موعده يفقد وظيفته الأساسية كوسيلة للعيش، ويحوّل العامل إلى أسير الديون والانتظار، مهما كان مقدار ذلك الراتب.
فالعمل الذي لا يُقابله أجرٌ منتظم، أو يُدفع بعد شهور، لا يمكن وصفه بعلاقة عمل عادلة، بل هو صورة من صور الإكراه الاقتصادي؛ إذ يُجبر الموظف على الاستمرار دون ضمان لقوت يومه أو استقرار أسرته.
اقتصادياً: الراتب المتأخر… أزمة مضاعفة
تأخر صرف الرواتب لشهور يعني انهيار التخطيط المالي بالكامل؛ فلا ميزانية، ولا ادخار، ولا قدرة على الوفاء بالالتزامات الأساسية. وهو ما يدفع الموظف إلى الاستدانة، وبيع ممتلكاته، والدخول في دوامة فقر مستدام، حتى لو كان راتبه نظرياً يكفي بعض الاحتياجات.
أَنَّ الأجر الذي يفقد وظيفته اقتصادياً حتى الراتب الكافي إن وُجد يفقد قيمته الاقتصادية إذا لم يُصرف في وقته، ويُدخل الموظف في دوامة فقر وانتظار دائم.
الراتب المتأخر الذي يفقد وظيفته اقتصادياً كوسيلة للمعيشة يُنتج:
– لا يسمح بالتخطيط المالي.
– يُسقط الادخار.
– يدفع الموظف للاستدانة وبيع ممتلكاته.
– بحوّل الراتب إلى أداة لسداد الديون لا للحياة.
أَنَّ تحميل الموظف وحده تبعات الانهيار المالي، وإبقاؤه يعمل بلا أجر منتظم، فهو نقل غير مشروع للمخاطر من الدولة أو جهة العمل إلى الفرد الأضعف في العلاقة القانونية.
الادخار الاقتصادي في ظل راتب متأخر
حين يتأخر الراتب، يصبح الادخار شبه مستحيل، لا لغياب الوعي، بل لغياب الدخل المنتظم. ومع ذلك، يبقى تنظيم المال متى ما صُرف الراتب ضرورة لا خياراً، ولو بحدوده الدنيا، لتقليل أثر الصدمات.
في الادخار حين يتأخر الراتب، لا يمكن تطبيق القاعدة الاقتصادية 50/30/20 إلا إذا كان الراتب:
– منتظماً.
– معلوم الموعد.
– كافياً بالحد الأدنى.
أما في حالة الرواتب المتأخرة، فإن الأولوية تصبح للبقاء لا للتوازن المالي، وهو خلل تتحمل مسؤوليته الجهات الدافعة لا الأفراد.
اجتماعياً.. كرامة مُعلّقة
اجتماعياً، يُنتج الراتب المتأخر حالة من القلق المزمن، ويُضعف كرامة العامل داخل أسرته ومجتمعه، ويحوّل الحياة إلى انتظار دائم. وقد توصل الباحثين أَنَّ الراتب المتأخر يُنتج:
– قلقاً نفسياً مزمناً.
– اهتزازاً في الاستقرار الأسري.
– فقداناً للأمان الوظيفي.
– إضعافاً لكرامة العامل داخل مجتمعه.
فالإنسان لا يعيش على الوعود، ولا تُدار الأسر بالأمل المؤجَّل، بل بدخلٍ حاضرٍ ومنتظم يضمن له الحد الأدنى من الاستقرار.
ثقافياً: العبودية بثوب حديث
لم تعد العبودية سلاسل تُرى، بل أنظمة تُدار!!
فالعبودية الحديثة تقوم على:
– تعليق الأجر بزمنٍ مجهول.
– تحويل الحق إلى وعد.
– جعل الإنسان يعمل اليوم ليعيش بعد شهور.
وهنا لا يكون العامل حراً، لأنه لا يملك قراره الاقتصادي ولا أمنه المعيشي!!
الراتب المتأخر: عبودية زمنية
العبودية الحديثة لا تقوم فقط على تدنّي الأجر، بل على تعليق حياة الإنسان بزمنٍ مجهول. فالراتب المتأخر يجعل العامل يعمل اليوم من أجل طعامٍ قد يأتي بعد شهور، ويُلغي مفهوم الاستقرار، ويحوّل الوظيفة من مصدر أمان إلى مصدر إذلال.
دينياً واخلاقياً: الأجر أمانة لا منّة
في الشريعة الإسلامية الغراء، فإن الأجر حق وأمانة، وتأخير الأجر مع القدرة على دفعه يُعدّ ظلماً صريحاً. وقد قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)، وفي رواية: (حقه) بدل (أجره).[رواه ابن ماجه، وصححه الألباني]، وفي حديث أخر عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (قال اللَّه تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره).[رواه البخاري].
فإذا كان تأخير الأجر اليسير ظلماً، فكيف بمن يُؤخَّر أجره أشهرا؟
إنّ ذلك الفعل ليس مجرد خلل إداري، بل اعتداء على حقٍ ثابت، ومخالفة لمبدأ العدالة والأمانة، وهو أكل لحقوق الناس بالباطل، ومخالفة صريحة لقيم العدل والإنصاف.!!
البعد الدستوري والحقوقي
يمس الراتب المتأخر جملة من الحقوق الأساسية، في مقدمتها:
– الحق في العيش الكريم.
– الحق في الاستقرار الوظيفي.
– الحق في الكرامة الإنسانية.
وهي حقوق لا يجوز تعطيلها أو الانتقاص منها بقرارات أو ممارسات مالية، لما لذلك من أثر مباشر على السلم الاجتماعي والثقة في الوظيفة العامة.
التكييف القانوني للراتب المتأخر مخالفة قانونية لا أزمة إدارية
من المنظور القانوني، لا يُعدّ الراتب مجرد التزام مالي عابر، بل التزام قانوني جوهري ناشئ عن علاقة وظيفية أو تعاقدية، ويقابل أداء العامل لواجباته الوظيفية كاملة. ولا يقتصر هذا الالتزام على مقدار الأجر فحسب، بل يشمل زمن صرفه وانتظامه، باعتبار ذلك عنصراً أساسياً في مشروعية علاقة العمل واستقرارها، يترتب عليه حقوق وواجبات متبادلة.
إنّ تأخير صرف الرواتب لأشهر يُشكّل في جوهره إخلالاً جسيماً بالتزام جهة العمل، سواء كانت جهة عامة أو خاصة، ويترتب عليه
قانوناً ما يلي:
– تحوّل الأجر من حق دوري إلى دين مؤجَّل في ذمة جهة العمل.
– الأجر المؤجَّل يفقد صفته القانونية كأداة للمعيشة، ويصبح دينا في ذمة الجهة الدافعة، بما يرتب مسؤولية قانونية عن التأخير، لا مجرد عذر مالي.
– اختلال التوازن العقدي بين طرفي علاقة العمل، حيث يفي العامل بالتزامه، بينما تتخلف الجهة عن التزامها المقابل.
– قيام صورة من صور الإكراه الاقتصادي، نتيجة استمرار العامل في أداء العمل تحت ضغط الحاجة لا الرضا.
– قيام صورة من صور العمل القسري المقنّع، إذ يُجبر الموظف على الاستمرار في العمل تحت ضغط الحاجة والخوف من فقدان مصدر الدخل، رغم غياب الأجر المنتظم، وهو ما يتعارض مع المبادئ العامة لقوانين العمل ومعايير حقوق الإنسان.
– المساس بالحق في الكرامة الإنسانية، فالراتب ليس مجرد مقابل مادي، بل وسيلة لضمان الحقوق الأساسية: الغذاء، السكن، الصحة، والتعليم. وتأخيره يُعد انتهاكاً غير مباشر لهذه الحقوق، ويُفرغ الوظيفة العامة من مضمونها القانوني.
المسؤولية القانونية المترتبة على التأخير
إنّ استمرار صرف الرواتب بشكل متأخر يُحمِّل الجهات المسؤولة:
– مسؤولية قانونية عن الإخلال بالالتزامات.
– مسؤولية عن الأضرار المادية الناتجة عن الاستدانة، والغرامات، وفقدان القدرة على الوفاء بالالتزامات (ديون، فوائد، فقدان ممتلكات).
– مسؤولية أخلاقية (ضرر معنوي يتمثل في انتهاك كرامة العامل و إهانته، القلق، فقدان الاستقرار).
– مسؤولية اجتماعية عن تفكيك الاستقرار الأسري.
– إخلال بمبدأ الثقة المشروعة في الوظيفة العامة.
– تفريغ الأجر من غايته القانونية والاجتماعية.
المسؤولية القانونية لا تسقط بالظروف
– أَنَّ الأزمات الاقتصادية أو الظروف الاستثنائية مهما بلغت حدّتها لا تُسقط الالتزامات القانونية، ولا تُبرّر تعليق الحقوق الأساسية للموظفين إلى أجلٍ غير معلوم. فالقاعدة القانونية المستقرة تقضي بأن الظروف لا تُبرّر انتهاك الحقوق، وإنما تُنظّم كيفية الوفاء بها، ولا تبيح تعليقها إلى أجلٍ غير معلوم، أما تحميل الموظف وحده تبعات فشل الانهيار المالي، وإبقاؤه يعمل بلا أجر منتظم، فهو نقل غير مشروع للمخاطر من الدولة أو جهة العمل إلى الطرف الأضعف (العامل، الموظف) في العلاقة القانونية.
– الراتب المتأخر ليس أزمة مالية فقط، بل مخالفة قانونية مستمرة الأثر، فإن توصيف الراتب المتأخر كـ “أزمة مالية” أو خلل إداري هو توصيف قاصر، لأن الأمر في حقيقته مخالفة قانونية مستمرة الأثر، يتحقق بها الضرر المادي والمعنوي معاً.
– ولا يُقبل قانوناً التذرع بالظروف الاقتصادية أو الاستثنائية لتبرير تعليق الحقوق المالية للعاملين، إذ إن القاعدة المستقرة تقضي بأن الظروف لا تُسقط الحقوق، وإنما تُنظم كيفية الوفاء بها.
الخلاصة القانونية
إنّ الراتب المتأخر ليس مسألة إدارية أو مالية فحسب، بل مخالفة قانونية مستمرة الأثر، يترتب عليها إخلال جسيم بالالتزامات، ومسؤولية قانونية قائمة، وأضرار مادية ومعنوية تستوجب المعالجة الجذرية، لا التبرير!!
الراتب الذي لا يكفي، والراتب الذي يتأخر، يشتركان في نتيجة واحدة:
سلب كرامة الإنسان.
غير أَنَّ الراتب المتأخر أخطر، لأنه:
يسلب القيمة، ويسلب الزمن، ويحوّل الحق إلى منّة، والعمل إلى إكراه، ويجعل الإنسان يعيش على الدَّين والانتظار، والوظيفة إلى عبودية اقتصادية وزمنية..
الخاتمة
قال الكاتب والروائي الإنجليزي جوروج أورويل في مقولته الشهيرة: (إذا كان راتبك يكفيك لتأكل وتنام فقط، فهذا ليس عملاً… في الماضي كانوا يسمّونه عبودية).
وصف جورج أورويل دقيق. عندما يتحول العمل من وسيلة للعيش الكريم والتطور إلى مجرد أداة لتمويل الطعام والنوم، فهو يفقد قيمته الإنسانية ويصبح شكلاً من أشكال العبودية الاقتصادية. المقولة تنتقد الفكرة التي تقول إنّ العمل الذي بالكاد يوفر احتياجات البقاء الأساسية (الأكل والنوم) دون أي فرصة للتحسين أو التطور هو شكل من أشكال الاستعباد الحديث أو الاستغلال، ففي الماضي كانت تلك هي العبودية الحقيقية التي تعتمد على القوة، أما اليوم فهي تُمارس من خلال النظام الاقتصادي الذي يترك الأفراد بالكاد يتدبرون أمورهم.
وفي اليمن.. قد لا يكفيك راتبك لتأكل، وقد لا يأتيك لتنام مطمئناً، لأنه قد يتأخر شهوراً!!
وهنا لا نتحدث عن فقرٍ فقط، بل عن خلل قانوني، وانهيار اقتصادي، وجرحٍ اجتماعي، وانحراف أخلاقي، وعبودية بثوبٍ حديث!!
لنعمل جميعاً أَنْ يكون الراتب أداة للتحرر وبناء الحياة، وليس طوقاً للعبودية!!
القاضي أنيس صالح جمعان
عضو نيابة النقض والإقرار في المحكمة العليا – محامٍ عام أول في النيابة العامة



