الحرب وتآكل رأس المال الاجتماعي في اليمن

د. محمد الميتمي
هل بقي في اليمن ما يستحق الأمل؟
لم تتعرض البنية المادية للدولة اليمنية فقط للتآكل والانهيار بفعل الحرب التي اندلعت منذ أكثر من عقد من الزمن، بل أيضا رأس المال الاجتماعي تعرض لدمار هائل – أي أن شبكة الثقة والقيم والتكافل والتعاون بين الأفراد والجماعات – لحق بها ضرر عميق ربما يكون الأكثر خطورة وفداحة في تأريخ اليمن.
المجتمع اليمني قبل هذه الحرب الملعونة طالما تفرد عن كثير من المجتمعات الإنسانية برأسماله الاجتماعي الثري الذي أتاح لأعضائه عبر تأريخهم الطويل اكتساب المنافع من عضويتهم في الشبكات الاجتماعية ابتداء من الوحدة الاجتماعية الأولي في المجتمع وهي الأسرة، ثم الحارة والقرية والمسجد وصولا إلى العشيرة والقبيلة والمدينة وانتهاء بالأحزاب والنوادي والجمعيات ومختلف الشبكات الاجتماعية الحديثة. ظلت روابط رأس المال الاجتماعي في المجتمع اليمني لقرون طويلة تجمعهم ضمن جماعات وفئات تعزز فيما بينهم أواصر المودة والتكافل والتآزر وتعزز الثقة والقناعة بأن الجميع سيفعل الشيء الصحيح نفسه.
ومن هنا تكمن قيمة وأهمية رأس المال الاجتماعي الذي يتجسد كمفهوم في: الروابط الأسرية والروابط المجتمعية الدافئة، الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع، قيم التعاون والعمل المشترك والشعور بالانتماء والهوية الوطنية الجامعة. ويُعد هذا النوع من رأس المال غير ملموس لكنه جوهري لقيام أي مشروع تنموي أو إصلاحي، والاهم من أجل الحفاظ على السلم المجتمعي والسلام الاجتماعي. فالمجتمعات التي تمتلك قدرًا عاليًا من رأس المال الاجتماعي تكون أكثر قدرة على تجاوز الأزمات.
بيد أن هذه الحرب قد أدت إلى تحولات بنيوية جسيمة داخل المجتمع اليمني من أبرزها تجزئة الهوية الوطنية إلي هويات فرعية، تصاعد الخطاب المناطقي والطائفي والقبلي والقروي والحزبي وحلت الانتماءات الضيقة محل الهوية الوطنية الجامعة، فصار المذهب السني على سبيل المثال عدة مذاهب متصادمة والشيعي عدة مذاهب متحاربة، وكل حزب سياسي يمني في داخله عدة محاور متناطحة. انهارت الثقة بين المواطن والدولة وقاد غياب مؤسساتها وانقسامها وانحدار كفاءتها إلى تآكل الإيمان بدور الدولة كمظلة راعية للفرد والمجتمع. أصبح البقاء مرتبطا بالقوة والانتماء للمجموعة المسلحة أو الجماعة الغالبة، لا بقيم العدالة والحق. الفقر والبطالة والجوع والهجرة والنزوح والتشرد أضعفت جميعها وظيفة الأسرة كحاضنة اجتماعية. النزوح لم يكن رحلة من بيت إلى خيمة، بل رحلة من دفء الروح إلى صقيع الوحدة.الآباء تغيروا، الأمهات تغيرن، والأطفال… أصبحوا أكبر من أعمارهم. طفلٌ في التاسعة يعرف صوت الرصاص أكثر مما يعرف صوت الموسيقي، ويفرق بين الطائرة المقاتلة والطائرة المدنية كما يفرق بين اسمه واسم أخيه.
هذه الحرب التي اندلعت مع نهاية 2014، لم تُصوّب رصاصها على الجدران فقط، بل أطلقتها على الأرواح أيضًا. لم تهدم البيوت وحدها، بل هدمت داخِل كل إنسان بيتًا من الطمأنينة. لقد عاش اليمنيون حربًا لم تكتفِ بسلبهم الخبز والأمان، بل سرقت شيئًا أعظم… سرقت قدرتهم على الثقة، على الضحك النقي، على الحلم المشترك.
لم يعد الجار يسأل جاره كما كان يسأله سابقا: كيف حالك؟ بل صار يتوجس ويخاف منه ويتجنبه. أعتاد اليمنيون أن يستهلّوا رحلة الصباح بعبارة السلام عليكم مع ابتسامة ودية زاهرة، ويمشون نحو بعضهم كما يمشي النهر نحو البحر. اليوم، أصبح السؤال البسيط عن الحال، سؤالًا مشحونًا بالحذر. لقد خَفُت صوت العلاقات، حتى صارت الصداقة تُقاس بالشك، والجيرة تُدار بالحذر، والقرابة صارت تحتاج إلى إثبات!
كل حربٍ تقتل شخصًا، إلا حرب اليمن فقد قتلت فكرة “نحن” في وعي ملايين الناس. صار اليمني يسأل نفسه: لمن أنتمي؟ ألليمن الكبير؟ لقريتي؟ أم لقبيلتي؟ لمنطقتي أم لحزبي أو لتلك الميليشيا المسلحة التي تحمي خبزي وتؤمنه لي؟ وبينما تتكاثر الأسئلة، تذبل الهوية اليمنية الجامعة.
أجبرت الحرب نحو خمسة ملايين يمني على النزوح من ملاذاهم الآمن – داخل اليمن الأم، وملايين والمهجرين قسرا نحو بلدان الغربة الموحشة. لكن الأخطر من ذلك أن العائلات لم ترحل فقط، بل تشققت من الداخل.الثقة والولاء للأسرة والجماعة والوطن، تلكم القيم النادرة، أصبحت تُشترى بالدعم والسلاح، لا بالمواقف والصدق، الولاء للخارج أصبح أكثر مدعاة للفخر والربح والأمان من الولاء للداخل؛ المبادرات التطوعية تقلصت، والشك تمدد والمجتمع أصبح مثل مرآة مكسورة. نحن لا نخسر وحدنا كأفراد، بل نخسر معًا كجماعة وأمة عريقة بعمر التأريخ.
انتشر بشكل فاضح عدم الثقة بين الأفراد، وارتفع معدل النزاعات المجتمعية على الموارد والمياه والأراضي، واتسعت دائرة الفقر والبطالة والعزلة الاجتماعية وتراجع مظاهر العمل التطوعي والمبادرات المجتمعية، تنامي الاقتصاد غير الرسمي واقتصاد الحرب بدلًا من التعاون الإنتاجي؛ وغدت أمّنا الجميلة اليمن عند بعض من أبنائها كيان أجرب يتنكرون لها.
كل هذا التآكل في رأس المال الاجتماعي اليمني يجعل من فترة ما بعد الحرب وبرنامج بناء السلام أكثر صعوبة ومشقة وكلفة لأسباب عدة أهمها: فقدان آليات ونظم المصالحة المجتمعية، ضعف الثقة بين الأطراف والمكونات الاجتماعية وتراكم شاهق لمخزون الكراهية والثأر بين أعضاءها، ضعف الثقة في الدولة والمـؤسسات وسيادة القانون، وظهور أجيال جديدة ولدت ونمت وتربّت في بيئة صراع لا تملك معها ذاكرة السلام.
إن أخطر ما خلفته هذه الحرب في اليمن ليس حجم الخراب المادي، بل الشرخ العميق في العلاقات الاجتماعية والتهتك في النسيج الاجتماعي الذي يمس جوهر فكرة العيش المشترك. فالدولة يمكن أن تُبنى من جديد، لكن الثقة إذا ماتت يصعب إحياؤها. لذا فإن إعادة بناء اليمن تبدأ من إعادة بناء الإنسان وروابطه ومشاعره وقيمه… فبدون رأس مال اجتماعي قوي لن تقوم دولة، ولن يزدهر سلام.إن رأس المال الاجتماعي لا يُعاد بكهرباء ولا بمشاريع إسمنتية… بل يُعاد حين يشعر كل يمني أن الآخر ليس تهديدًا، بل جزءًا من معادلة البقاء.
والسؤال الحي والحيوي اليوم هو هل يمكن أن يستعيد اليمن عقله وقلبه؟ نعم، يمكن… لكن القلب يحتاج أولًا أن يؤمن أنه لا يزال ينبض حيًا، والعقل أنه شمعة متّقِدة لا تنطفئ فتضيء لنا الطريق نحو السلام والتعايش السلمي. يحتاج اليمن إلى: مصالحة تبدأ من الداخل قبل السياسة؛ إلى مَدْرسة تُعلّم الطفل كيف يصنع سلامًا صغيرًا في داخله؛ إلى إعلام يحيي الوطنية بدل التحريض؛ ومبادرة محلية تعيد للناس شعورهم بأنهم قادرون على البناء، لا فقط على النجاة؛ وفوق كل هذا وقبله إلى إرادة وطنية واحدة ترفع شعار اليمن ساميا أولا وأخيرا.
ولاستعادة رصيدنا الحيوي الثري بقيم التعايش والتسامح يتطلب منا تدخلات متعددة المستويات منها: تعزيز العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية؛ إحياء وتكريس دور التعليم والإعلام في بناء الثقة والهوية الوطنية المشتركة؛ دعم المبادرات المحلية المجتمعية وتوثيق قصص النجاح؛ تفعيل منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص كجسور بين الفئات المتنازعة؛ تنفيذ برامج نفسية واجتماعية تعالج آثار صدمات هذه الحرب.
وإذا ما سألنا أُمِّنا اليمن – هل بقي فيك ما يستحق الأمل؟ فستجيب قطعا – رغم الألم: نعم.. بقي الإنسان اليمني العنيد الذي لا يُهزم ولا يستكين، ففيه روح لا يستطيع الدخان أن يخنقه ولا الخراب أن يدفنه، وهو ما يجب أن نبني عليه بدايتنا الجديدة.
*سفير اليمن بالصين



