مقالات

العرب وحرب اللوجستيات العالمية

حرب اللوجستيات صارت اختبارًا لقدرة المنطقة على تحويل موقعها الجغرافي من مكسب طبيعي إلى قوة استراتيجية إنها لحظة مفصلية تتيح للعرب أن يفرضوا أنفسهم في قلب التوازنات الدولية.

اقتصاد لوجيستي قائم على الموانئ
في عام 2025، سيكسر ميناء شنغهاي رقمًا قياسيًا جديدًا بتعامله مع نحو 55 مليون حاوية، متجاوزًا الرقم التاريخي الذي حققه في 2024 حين بلغ 51.5 مليون حاوية. هذا الإنجاز ليس مجرد رقم اقتصادي جاف، بل هو إعلان عن تحوّل عميق في موازين القوة الدولية. واللافت أن ذلك يفرض على الدول العربية عدم تضييع فرصة الانخراط بقوة في حرب اللوجستيات العالمية.

في زمنٍ باتت فيه البضائع والطرق والممرات أهم من الجيوش والأسلحة، تحوّلت اللوجستيات إلى أداة للهيمنة الجيوسياسية، وصارت الموانئ والمطارات والسكك الحديدية جبهات جديدة في حرب باردة من نوع آخر.

من خلال تفوقها الساحق في البنية التحتية، تفرض الصين اليوم إيقاعها على الاقتصاد العالمي، بدليل أنها حطّمت مؤخرًا رقمًا لا يمكن لأي دولة مجاراته بفائض تجاري ناهز التريليون دولار. ميناء شنغهاي وحده يتعامل مع بضائع تفوق ما تنقله موانئ بأكملها في أوروبا الغربية مجتمعة. موانئ نينغبو، وشينزين، وتشينغداو تسجّل بدورها أرقامًا تصاعدية، ما يجعلها تتحكم فعليًا بنحو ثلث حركة الحاويات في العالم.

المغرب وحّد موقعه الأطلسي والبحري مع شبكة صناعية ضخمة، بحيث لم يعد مجرد ممر، بل منصة تصنيع وتصدير مرتبطة بعمق مع سلاسل الإمداد الأوروبية

وفي المقابل، تشهد أوروبا انكماشًا؛ فقد انخفضت حركة البضائع في ميناء روتردام، الأكبر في القارة، بنسبة 4 في المئة في النصف الأول من 2025، وهو تراجع يكشف تحوّل مركز الجاذبية التجاري نحو الشرق.

غير أن المنافسة ليست محصورة بين الصين وأوروبا، فالولايات المتحدة تجد نفسها في وضعٍ معقّد داخل هذه الحرب الهادئة. فبينما تملك أساطيل تجارية ضخمة، إلا أنها تعاني من تراجع في قدرات الموانئ والبنية التحتية. تقرير مجلس النقل الأميركي لعام 2024 أشار إلى أن أكثر من 70 في المئة من موانئ البلاد بحاجة إلى تحديث شامل، وأن تأخيرات الشحن في موانئ مثل لوس أنجلوس ولونغ بيتش كلفت الاقتصاد الأميركي نحو 20 مليار دولار سنويًا بسبب الازدحام ونقص الطاقة التشغيلية. ومع أن هناك خطة لاستثمار 17 مليار دولار لتحديث الموانئ، فإن الفارق بين سرعة التطوير في آسيا وتباطؤ الإصلاح في أميركا لا يزال كبيرًا.

واشنطن تدرك أن السيطرة على الممرات التجارية جزء من لعبة النفوذ، لذلك لجأت إلى مقاربة مختلفة تتمثل في احتواء الخصم بدل منافسته. فهي تحاول، عبر تحالفاتها العسكرية والاقتصادية مثل اتفاقات “كواد” مع اليابان والهند وأستراليا، و”أوكوس” مع بريطانيا، أن تبني طوقًا استراتيجيًا حول الصين، يهدف إلى ضمان حرية الملاحة في المحيطين الهندي والهادئ. إلا أن الواقع يشي بعكس ذلك؛ فالصين تمتلك أو تسيطر جزئيًا على أكثر من 90 ميناء في 50 دولة، عبر شركاتها العملاقة مثل “كوسكو” و”تشاينا ميرشانتس”، ما يمنحها شبكة نفوذ تجارية تكاد تغطي الكوكب.

في خضم هذا الصراع التجاري القوي، لا يمكن لأي قوة عالمية تجاهل المنطقة العربية، التي لا تملك مجرد موارد طبيعية، بل تملك ما هو أكثر ندرة: مفاتيح البحر ومسالك التجارة.

أربعة من أهم الممرات البحرية في العالم تمر عبرها: قناة السويس، ومضيق هرمز، وباب المندب، ومضيق جبل طارق من الجهة الغربية. إنها رقعة الجغرافيا التي تتحكم في حركة قرابة 30 في المئة من التجارة البحرية العالمية، وتشكل نقطة الأعصاب لسلاسل الإمداد الدولية التي تبني عليها الصين والولايات المتحدة عقود استراتيجياتهما.

قناة السويس وحدها، التي سجلت في 2022 أعلى إيراد بتاريخها عند 8 مليارات دولار، قبل أن تنخفض بشكل حاد بسبب التوتر في البحر الأحمر، تُعد مرآة لحساسية النظام التجاري العالمي. وفي ذروة هجمات الحوثيين في 2024 و2025، تراجع نشاطها بنحو 40 في المئة، واضطرت نحو 80 في المئة من السفن التجارية إلى الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، رافعة تكاليف النقل بنسبة تجاوزت 250 في المئة في بعض المسارات.

في خضم هذا الصراع التجاري القوي، لا يمكن لأي قوة عالمية تجاهل المنطقة العربية، التي لا تملك مجرد موارد طبيعية، بل تملك ما هو أكثر ندرة: مفاتيح البحر ومسالك التجارة

هذا التغيّر ضرب سلاسل الإمداد الأوروبية والأميركية والصينية على حد سواء، لكنه كشف أيضًا أن التحكم في البحر الأحمر – سلبًا أو إيجابًا – يمكن أن يغيّر قواعد التجارة العالمية. في الخليج العربي، يتحول مضيق هرمز إلى ورقة ضغط ذات أبعاد لوجستية تتجاوز النفط نفسه؛ فمرور نحو خُمس تجارة النفط العالمية عبره يمنحه ثقلًا لا يُنازع، ويجعل أي اضطراب فيه ينعكس فورًا على أسعار الطاقة في نيويورك وبكين ولندن.

دول الخليج استثمرت بقوة في تنويع موانئها؛ فمثلًا، ميناء الملك عبدالعزيز في السعودية يحقق نموًا سنويًا يفوق 13 في المئة، وميناء الدقم العُماني يعيد رسم خارطة المحيط الهندي عبر توجيه تجارة آسيوية نحو مسارات بديلة عن هرمز.

المغرب بدوره وحّد موقعه الأطلسي والبحري مع شبكة صناعية ضخمة، بحيث لم يعد مجرد ممر، بل منصة تصنيع وتصدير مرتبطة بعمق مع سلاسل الإمداد الأوروبية. ميناء طنجة المتوسط رسّخ مكانته كأحد أهم موانئ المتوسط وأفريقيا على الإطلاق، بعد تجاوزه 8.6 ملايين حاوية في 2024، ليقترب من منافسة موانئ أقدم وأكثر تمويلًا في أوروبا.

هذه التحولات لا تمرّ دون حسابات القوى الكبرى. لكن ما يميز المرحلة أن المنطقة العربية لم تعد مجرد ممر يغازله الشرق والغرب، بل أصبحت لاعبًا في حد ذاتها. مشاريع السعودية لربط موانئ البحر الأحمر بالخليج عبر خطوط برية وبحرية عملاقة، وهو نفس ما تفعله سلطنة عمان، وتحوّل مصر نحو اقتصاد لوجيستي قائم على الموانئ والمناطق الاقتصادية، وصعود المغرب في سلاسل التصنيع، كلها مؤشرات على أن العرب بدأوا يدركون أن قوتهم ليست فقط في النفط، بل في الممرات والوقت والموقع.

حرب اللوجستيات، التي تشمل أيضًا ممرات الشحن الجوي والبري، صارت اختبارًا لقدرة منطقتنا على تحويل موقعها الجغرافي من مكسب طبيعي إلى قوة استراتيجية. إنها لحظة مفصلية تتيح للعرب أن يفرضوا أنفسهم في قلب التوازنات الدولية، إن هم أعادوا ضبط استثماراتهم في بوصلة منظوماتهم اللوجستية، وتعاونوا إقليميًا بدلًا من التنافس الضيق فيما بينهم.العرب

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى