مقالات

إنه لا يحب الموسيقى!

فبراير 11, 2017
عدد المشاهدات 1253
عدد التعليقات 0
نهى الصراف 

الموسيقى هي اللغة العالمية الوحيدة التي لا تحتاج إلى تلقين، فنحن نولد وفي أرواحنا توق إلى نغم شفاف يترجم إحساسنا ويقرأ صمتنا، يبكينا ويضحكنا، يشرب دموعنا ويؤطر ابتساماتنا.

الموسيقى؛ حديث النفس للنفس وابنة الملامح الصامتة، كما يصفها جبران خليل جبران، تلك الضوضاء المحببة التي تظلل اللوحة الخلفية لحياتنا اليومية؛ حيث نعمل، نكتب، نصنع الطعام، نقرأ الروايات، نحب أطفالنا ونرص آنية الورد على نوافذنا في ساعات الوحدة الطويلة، فهي حاضرة بين اللحظات والدقائق مثل جملة اعتراضية تقطع الطريق على الحزن الذي يزحف على الروح في غفلة منا، ومثل إشارة مرور تنظم سيل الفظاعات التي تنزف من نشرات أخبار المساء، تأتي الموسيقى دائماً فتصبغ كل شيء بستار شفيف من ألق.

هكذا نراها وهكذا يخافونها، فلماذا يخافون الموسيقى؟ هذا السؤال المشروع يراه البعض من خلال نافذة قلبه الميت انتهاكاً لحرمة دين أو أعراف وتقاليد غبية، تصور عالمنا وكأنه لوحة سوداء لا يمكن أن يجرح قتامتها سوى دم أحمر قان متناثر من أجساد ضحايا التطرف والظلام. ولأن الموسيقى والفن جمال فهو بالتأكيد الشبح الذي يخافه الظلاميون أكثر من غيره، فالجمال هو الحد النقي الفاصل الذي يظهر قبحهم بصورة أوضح.

أذكر جيداً، في حوار قديم مع الموسيقار العراقي الكبير سالم عبدالكريم، الكلمات التي وصف بها حال الموسيقى اليوم في بعض بلداننا العربية والإسلامية، حين أشار إلى أن الصورة ما زالت قاتمة، حيث لا يسمح التطرف بالغناء والعزف على الآلات الموسيقية ويسمح فقط بضرب الطبول استعداداً لحروب جديدة، وكان يجيب عن سؤالي بسؤال فيقول: لا أعرف ما هو السبيل لإعادة الناس إلى مقاعدهم والاستمتاع بالموسيقى؟

تطال عمليات التفجير بعبوات لاصقة أو ناسفة، حياة الناس في العراق من جنوبه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه بصورة يومية، فتنهي حياة أبرياء وتقطع أعناق أرزاقهم من دون حق، عصابات بمسميات عدة لا تطالها سلطة ولا قانون، تمارس جرائمها في تعطيل حياة الناس اليومية وتشويه واقعهم ولا تكتفي بذلك، بل إنها صارت تفرض مزاجها الغبي في قمع الحريات وكل مظاهر الحياة، حيث نشطت مؤخراً بزرع عبوات الموت أمام بوابات محال بيع الآلات الموسيقية ومكاتب تنظيم الحفلات الغنائية وتحديداً في القلب الموجوع لمدينة البصرة العراقية، الحسناء الجنوبية الساحرة وفينيسيا الشرق.

كما دأبت على تمرير رسائل تهديد مباشرة وغير مباشرة وتبنت عمليات مطاردة ومحاولات اغتيال لفنانين، عصابات مجهولة بعرف أصحاب القرار يسعها أن تخاطب جمهور الفن والجمال بكل حرية: أن لا مكان لكم هنا وإن سمح القانون بذلك!

وأنا استحضر مشهد عزف الفرقة الموسيقية على سطح سفينة “تيتانك” الموشكة على الغرق، يخيّل إلي بأن هناك من سيقود المعزوفة الأخيرة على هذه الأرض الجميلة قبل أن يتسنى لها الغرق في ظلام القمع والحروب والفاقة، موسيقى تصويرية أخيرة ربما سيكتب لها النجاح لترافق المشهد الأخير لخراب البصرة!

في مسرحيته تاجر البندقية، فينيسيا الغرب، كان شكسبير يقول على لسان بطله لورنزو “الرجل الذي لا يشعر بالموسيقى ولا يهزه الطرب إنما هو قطوب كقطوب الظلام، وأهواؤه سود كأهواء الريب. قصارى القول إنه رجل يحذر شره ويتقى أمره”، فاحترسوا من هذا الرجل، إنه لا يحب الموسيقى!العرب

مواضيع مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى